للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)]

قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:٦١].

قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيبا نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم].

ومنه قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:٢]، والمراد بذلك استبدال الأطعمة، فالباء إنما تدخل على المتروك، فهم قد استبدلوا الشيء الطيب وأخذوا بدله الأطعمة الرديئة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه.

وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:٦١] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد].

قوله: دبركم، أي: توليكم، وهذا من دنو همتهم، فإن الله تعالى أنزل عليهم المن، وهو يشبه العسل، ويكون طعاماً، وإذا ركب مع غيره صار حلوى وفاكهة، والسلوى طائر لحمه من ألذ اللحوم، ومع ذلك يقولون: يا موسى! نريد البصل والكراث والثوم، لن نصبر على طعام واحد، أفي كل يوم من وسلوى؟ نريد تبديلاً وتغييراً {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} [البقرة:٦١] وشجر البقل معروف، ولعل البقالة تنسب إليه، فمما يباع فيها الكراث والبصل والثوم والقثاء -هو الخيار- وما أشبهه، والفوم هو الثوم أو غيره، فقال لهم موسى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:٦١] أي: أتختارون الرديء وتتركون الجيد؟! وهل يقاس الآن الثوم والبصل والكراث بالمن والسلوى؟! ولهذا قال لهم موسى: أن هذه الأمور التي طلبتموها دنيئة لا تستحق أن أسأل ربي، فلو دخلتم أي بلد من البلدان لوجدتموها {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:٦١] فأي بلد ستدخلونها ستجدون الكراث والثوم والبصل، وهذا يدل على دنو همتهم وتعنتهم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناها، فوقع في قراءة ابن مسعود: (وثومِها) بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم.

وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس، عن الحسن في قوله: {وَفُومِهَا} [البقرة:٦١] قال: قال ابن عباس: الثوم، قال: وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا؟! قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير].

وهنا فوم وثوم، فالحروف ينوب بعضها عن بعض، فيقال: فوم، ويقال: ثوم، ويقال: أثافي وأثاثي، وعلى هذا القول فالفوم معناه الثوم، وهذا هو أحد الأقوال.

قال المصنف رحمه الله: [وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء، والثاء فاء لتقارب مخرجيهما.

والله أعلم.

وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل عن قول الله: ((وَفُومِهَا)) ما فومها؟ قال: الحنطة.

قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول: قد كنت أغني الناس شخصاً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم].

وهنا ذكر القول الثاني في الفوم: وهو الحنطة، أي: أنه البر بأنواعه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب].

وفي بعض النسخ: رشيد، والصواب أنه: رشدين بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو كريب المدني ضعيف من السادسة كما في التقريب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ((وَفُومِهَا)) قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة.

وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء: ((وَفُومِهَا)) قالا: وخبزها.

وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك: ((وَفُومِهَا)) قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

فالله أعلم.

وقال الجوهري: الفوم: الحنطة.

وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة.

وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز.

قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي.

قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم].

بمعنى: أنه منقلب عن فام، وأصله فوم، فقلبت الواو ألفاً فصار: فامي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:٦١].

فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة، مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع].

وهذا من ضمن تعنتاتهم، فلقد كان لهم تعنتات كثيرة على أنبيائهم، والله سبحانه وتعالى يغدق عليهم وينعم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف.

وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك.

وقال ابن عباس: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) قال: مصراً من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.

وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: اهبطوا مصر من غير إجراء، يعني من غير صرف].

يريد بـ (مصر) الدولة المعروفة، والقراءة المعتبرة كما تقدم مصراً: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:٦١] والمراد بـ (مصراً) أي بلدٍ من البلدان، أو مصراً من الأمصار، أي: اهبطوا أي بلدٍ من البلدان، ولا يمكن أن يكون المراد الدولة المعروفة؛ لأنهم خرجوا منها ولا يريدون الرجوع إليها، وإنما المراد: اهبطوا أي بلد من البلدان، أو اهبطوا مصراً من الأمصار تجدون هذه التي طلبتم: البقول، والكراث، والثوم.

وعند ذلك ليسوا بحاجة إلى أن يقولوا: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)) والمعنى: ليس ما طلبتم هو بالأمر المهم حتى أسأل ربي أن يعطيكم ذلك؛ لأن مثل هذه ستجدونها في أي بلد من البلدان.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك: بمصر فرعون].

وهذا على قراءة من قرأها بدون تنوين، لكنها قراءة غير معتمدة، والمعتمد ما جاء في مصاحف الأئمة العثمانية التي أجمع عليها الصحابة: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:٦١] بالتنوين، فلا تثبت قراءة: (اهبطوا مصر).

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً.

قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً.

ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قَوَارِيرَاً * قَوَارِيرَ} [الإنسان:١٥ - ١٦] ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟].

وهذا الاحتمال ضعيف، والأقرب القول الأول، وهو أن المراد: أي مصر من الأمصار.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره].

وهذا هو الحق والصواب كما قال الحافظ رحمه الله تعالى.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمعنى على ذلك؛ لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع د