للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بسط قصة بقرة بني إسرائيل]

ذكر بسط القصة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً؛ فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم على بعض فقال ذوو الرأي منهم والنهى].

قوله: (والنهى)، أي: العقل، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:٥٤].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:٦٧] قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم؛ حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً؛ فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا -لابن أخيه- ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد].

هذا الحديث سنده جيد إلى عبيدة السلماني، لكنه أخذه من أخبار بني إسرائيل، فقد أخذ عدداً من أخبار بني إسرائيل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك، والله أعلم.

ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به.

وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه؛ فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه الصلاة والسلام فقال: إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم].

قوله: وإني على أمر عظيم، يعني: أتى علي أمر عظيم من خبر قتله، بمعنى: أصابني هم وأصابتني شدة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله! قال: فنادى موسى في الناس فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه الصلاة والسلام فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] فعجبوا من ذلك فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} [البقرة:٦٧ - ٦٨] يعني: لا هرمة، {وَلا بِكْرٌ} [البقرة:٦٨] يعني: ولا صغيرة، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:٦٨] أي: نصف بين البكر والهرمة، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:٦٩] أي صاف لونها {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:٦٩] أي: تعجب الناظرين، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:٧٠ - ٧١] أي: لم يذللها العمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:٧١] يعني: وليست بذلول تثير الأرض {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:٧١] يعني: ولا تعمل في الحرث، {مُسَلَّمَةٌ} [البقرة:٧١] يعني: مسلمة من العيوب، {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:٧١] يقول: لا بياض فيها، {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١] قال: ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:٧٠] لما هدوا إليها أبداً].

هذا السؤال من تعنتات بني إسرائيل، ومخالفتهم لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، لكنهم تعنتوا فقالوا: لا ندري البقرة، أصغيرة أو كبيرة؟ فلما أخبروا بأنها وسط، قالوا: لا ندري ما اللون؟ هل هذه البقرة صفراء، أم سوداء، أم حمراء؟ فلما أخبروا باللون، قالوا: لا ندري، هل تعمل أم لا تعمل؟ فالبقر تشابه علينا، ونريد وصفاً واضحاً، فبين الله لهم أنها لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أي: لا تعمل، مسلمة، ولا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر.

فكلما سألوا ضُيق عليهم الأمر، وأُعطوا أوصافاً تضيق الدائرة، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم تعنتوا وشددوا، فشدد الله عليهم.

ومن فوائد هذه القصة: أن فيها تحذيراً لهذه الأمة من التشدد والتعنت، قال عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فكثرة المسائل أي: التعنت، سبب للهلاك، ولذلك قال الله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:٧١]، أي: مع كل هذه الأوصاف والتعنتات ما كادوا ليفعلوا، لولا أنهم استثنوا ووفقهم الله ما كادوا يفعلون.

فكثرة الأسئلة التي يراد منها التعنت، وإيقاع المسئول في العنت والحرج، كل هذا منهي عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فينبغي للمسلم أن يحذر من التعنت والتشدد في المسائل، وكثرة الأسئلة عن أمور لم تقع بعد، أو التي فيها إشكال، وإنما الواجب على المسلم أن يسأل أسئلة واقعة، أو أسئلة تمس الحاجة إليها، ويكون قصده الفائدة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز، وعندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها؛ أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان، فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى عليه الصلاة والسلام فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.

وقال محمد بن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله في شأن البقرة، وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان مكثراً من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته، فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ قوله: (وتغرموا أهل المدينة)، يعني: تغرمونهم الدية، أي: يقتلونه ويضعونه على باب المدينة ويدعونه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين، فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية.

وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم؛ عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا، قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا.

وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: قل لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] فتضربوه ببعضها.

وقال السدي: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:٦٧] قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال، فكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته؛ فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال يا عم! انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها؛ فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الف