للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ذكر الأحاديث الواردة في شأن هاروت وماروت]

ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه: قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٣٠]، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم! قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان.

قالوا: ربنا! هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً.

فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تقتلا هذا الصبي.

فقالا: لا -والله- لا نقتله أبداً، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا).

هذا الحديث فيه موسى بن جبير مجهول الحال، فلا يصح، لكن لو صح فإنه يدل على خبث الخمر، والعياذ بالله، فهي أم الخبائث؛ لأنها إذا شربها الإنسان غاب عقله، فيقع في الزنا ويقع في القتل ويقع في الشرك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم].

قوله: [السلمي] نسبة إلى بني سلمة، [مولاهم] يعني أنه نسب إلى بني سلمة بالولاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك، وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود وابن ماجة، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك فيه شيئاً من هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بطوله.

وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم أخبرنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير- أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع! انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا مرتين أو ثلاثاً، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً، قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع؟! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة قالت: يا رب! كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم.

قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك.

قال: فاختاروا ملكين منكم، قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت) وهذان -أيضاً- غريبان جداً].

وهذا فيه الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وهذه الأخبار كلها ضعيفة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم].

يعني أن الأقرب أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكعب الأحبار هو من بني إسرائيل، أسلم في زمن عمر رضي الله عنه، وكان ينقل عن بني إسرائيل الغث والسمين، والصحيح والباطل، فالأقرب أن هذا الخبر من رواية كعب الأحبار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً وليس بيني وبينكم رسول، إنزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه.

رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به.

ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به.

ورواه ابن جرير أيضاً: حدثني المثنى أخبرنا المعلى -وهو ابن أسد - أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره.

فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع.

فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل.

والله أعلم].

المؤلف رجح أن الحديث إنما هو عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهو من رواية سالم عن أبيه، وهي أصح من رواية نافع عن ابن عمر المرفوعة، فالرواية الأولى عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية عن سالماً عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهذا أثبت؛ لأن سالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فرجح الحافظ رحمه الله أنها من أخبار بني إسرائيل، وهذا هو الأقرب، وعلى هذا فلا تثبت قصة في إنزال الملكين وقصة الزهرة.