للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الساحر وحده]

قال الله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٠٢ - ١٠٣].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به، {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:٨٠]، وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة:١٠٣] من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف].

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة:١٠٣]، يدلَّ على أن السحر كفر وليس بإيمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه؛ لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: أخبرنا سفيان -هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر].

وهذا لا يدل على أنه قتله ليس بكفر، بل قتله كفر على الصحيح، وقال بعضهم: إنه لا يكفر به، ولكن حده القتل كقتل القاتل ورجم الزاني، ويكون مؤمناً، والصواب أنه كافر، وأن قتله كفراً لا حداً.

وقال بعضهم: إنه لا يقتل وإنما يسجن حتى يموت، وذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة، والصواب أنه كافر، وأنه يقتل، وأن قتله كفراً لا حداً، وهذا هو قول الجمهور.

وعلى هذا القول فالساحر لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم؛ لأنه كافر، وأما سحر الأدوية والتدخينات فهذا إذا لم يستحله صاحبه وقتل فقتله يكون حداً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه].

هذا الحديث روي بلفظ: (ضربه)، وروي بلفظ (ضربة بالسيف).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث، والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً، قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً، والله أعلم].

والترمذي ضعَّف إسماعيل المذكور، وعليه فيكون الحديث موقوفاً، ورواية الطبراني تدل على أنه مرفوع، والموقوف يؤيده المرفوع، فهذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، وظاهر كلام الحافظ أن رواية الطبراني لا بأس بسندها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لَعِبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:٣]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم.

وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب، فجاء جندب مشتملاً على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً].

معنى (أَراه) بالفتح: أعلم أنه ساحر، أما (أُراه) بضم الهمزة فمعناها (أظنه)، فـ جندب رضي الله عنه قتله لأنه يعلم أنه ساحر، وبعد تحققه من ذلك، ولم يقتله بالظن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم].

الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أن السحر الذي ليس فيه شرك لا يقتل صاحبه، وإنما يعزر، إلا إذا استحله، وهو يقصد بذلك سحر الأدوية، فهو قد أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر.