للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعريف النسخ وأقسامه]

النسخ في اللغة: يطلق على الإزالة، ويطلق على النقل، يقال: نسخت الشمس الظل: إذا أزالته، ويقال: نسخ ما في الكتاب: إذا نقل ما فيه، والنسخ موجود في القرآن، وموجود في السنة المطهرة، وقد تنسخ الآية لفظاً ويبقى حكمها، كما نسخت: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فنسخ لفظها وبقي حكمها، والمراد بالشيخ: المتزوج إذا زنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم).

وقد ينسخ الحكم ويبقى اللفظ، كنسخ آية تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً بآية التربص أربعة أشهر وعشرة أيام، فنسخ حكمها ولفظها باق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:٢٤٠] نسخ حكمها بآية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:٢٣٤].

وقد يكون النسخ إلى بدل، كما في هاتين الآيتين، وكما في آية المصابرة، فقد نسخ الله تعالى مصابرة المسلم الواحد لعشرة إلى حكم أخف، بأن يصابر الواحد اثنين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:٦٥] فكان المسلم يجب عليه أن يقف أمام عشرة أولاً، ثم خفف الله ذلك، فنزلت بعدها: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:٦٦].

فقد يكون النسخ إلى ما هو أخف كما في هاتين الآيتين، وقد يكون النسخ إلى ما هو أثقل، وقد يكون النسخ إلى مماثل، كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

وقد يكون النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:١٢] ثم نسخت إلى غير بدل، والله تعالى له الحكمة البالغة.

وقد ينسخ الحكم قبل التمكن من العمل به، فقد فرض الله الصلاة خمسين صلاة على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، ثم نسخها الله إلى خمس صلوات قبل تمكن العباد من الفعل فضلاً وإحساناً، فله الحكمة البالغة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء.

ولخص بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه، والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه].

وقد يقال: ما حرم الله على بني إسرائيل الطيبات إلا بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم، مثل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه} [آل عمران:٩٣]، فقد كان حرم على نفسه لحم الإبل، وقوله فيمن صدوا عن سبيل الله: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:١٦٠]، وكذلك حرم الله عليهم الشحوم بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:١٤٦].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها)].

قوله: (فالهوا عنها) أي: تشاغلوا عنها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكان الزهري يقرؤها: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:١٠٦] بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف].

أي أن السند ضعيف؛ لأجل سليمان بن الأرقم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا، ذكره القرطبي.

وقوله تعالى: (أو ننسها) قرئ على وجهين: (ننسأها) و (ننسها)، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه: نؤخرها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ما ننسخ من آية أو ننسها) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: (أو ننسأها): نثبت خطها ونبدل حكمها.

وقال عبيد بن عمير ومجاهد وعطاء: (أو ننسأها): نؤخرها ونرجئها، وقال عطية العوفي: (أو ننسأها): نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني: الناسخ والمنسوخ، وقال أبو العالية: (ما ننسخ من آية أو ننسأها): نؤخرها عندنا.

وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل -يعني: ابن أسلم - عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل: ((ما ننسخ من آية أو ننسأها)) أي: نؤخرها.

وأما على قراءة (أو ننسها) فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.

وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه.

وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج -يعني: الجزري -عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:١٠٦].

وقال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جزري].

وقال عبيد بن عمير: (أو ننسها): نرفعها من عندكم.

وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تنسها)، قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: (أو ننساها)، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:٦]، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:٢٤]، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد.

وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: علي