للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على ما يتعلق بحديث (قسمت الصلاة) مما يختص بالفاتحة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه: أحدها: أنه قد أطلق فيها لفظ الصلاة والمراد: القراءة، كقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:١١٠] أي: بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس].

قلت: جاء في الصحيح أنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وكان إذا رفع صوته بالقراءة سب المشركون القرآن ومن أنزله، وإذا خفض صوته بالقراءة لم يسمعه أصحابه، فأنزل الله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} يعني: بقراءتك؛ لئلا يسب المشركون الرب، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا}؛ لئلا تخفي ذلك عن أصحابك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} يعني: بين الجهر وبين الإخفاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا قال في هذا الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)، ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها إذا أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:٧٨]].

والمراد بقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: وقت صلاة الفجر، وسمى صلاة الفجر قرآناً؛ لأن أعظم أركانها القراءة، وكذا العكس نطلق الصلاة على القرآن، كما في حديث: (قسمت الصلاة) يعني: القراءة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: (أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار) فدل ذلك كله على أنه لابد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني؛ وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة غير فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين: فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة].

وهذا القول ضعيف، والصواب أنه لابد من قراءة الفاتحة ولا يقوم غيرها مقامها، وأما ما زاد عليها فغير واجب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:٢٠]، وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلنا.

].

قلت: هذا الاستدلال يجاب عنه: بأن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:٢٠] مجمل، وحديث المسيء في صلاته مجمل، وقد بينتهما الأحاديث الصحيحة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقول الثاني: أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)، والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث: (غير تمام).

واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله.

ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنها تجب قراءتها في كل ركعة، وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)].

قلت: الصواب أنها ركن في كل ركعة للإمام والمنفرد، فأما المأموم ففيه خلاف، لكن الإمام والمنفرد يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة، ولا تصح الصلاة إلا بقراءتها في كل ركعة، فهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه؛ لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:٢٠]، والله أعلم.

وقد روى ابن ماجة من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) وفي صحة هذا نظر، وموضع تحرير هذا كله في كتاب (الأحكام الكبير)، والله أعلم].

كتاب (الأحكام الكبير) هو للمؤلف رحمه الله.

فحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) هو كما قال المؤلف: في صحته نظر؛ لأنه لا يتعين إلا الفاتحة.

وأما بالنسبة للإمام والمنفرد فإنه يجب قراءة الفاتحة عليهما، وأما المأموم ففيه خلاف، وهناك عدة أقوال: الأول: ذهب الجمهور إلى أن المأموم تسقط عنه، وأن قراءة الإمام قراءة له.

وقيل: إنها مستثناة، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:٢٠٤]، قال الإمام ابن حجر: أجمع العلماء على أنها نازلة في الصلاة، وبما ثبت في صحيح مسلم: (وإذا قرأ فأنصتوا)، قالوا: فهذا يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة.

القول الثاني لأهل العلم: أن المأموم يقرؤها وأنها لا تسقط عنه، فإن كان للإمام سكتات قرأها في السكتات.

وأجابوا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:٢٠٤] بأنها عامة، وأجابوا عن حديث: (إذا قرأ فأنصتوا) بأنه يستثنى منه الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وهذا عام يشمل الإمام والمنفرد والمأموم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها).

فإن قيل: إذا جاء المأموم والإمام يقرأ في السورة التي بعد الفاتحة فهل يشرع له الاستفتاح؟

الجواب

لا؛ لأن الاستفتاح سنة، وقد فات محله، وإنما يقتصر على الواجب وهو الفاتحة، وإذا جاء والإمام راكع سقطت عنه لحديث أبي بكرة: (أنه لما جاء والنبي راكع ركع دون الصف، ثم دب حتى دخل في الصف، فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد) ولم يأمره بإعادة الركعة، فدل هذا على أن المأموم إذا جاء والإمام راكع تسقط عنه الفاتحة، وكذلك إذا لم يتمكن من قراءتها.

أما البخاري وجماعة فيرون أنها لا تسقط بكل حال، حتى لو جاء والإمام راكع فإنه يقضي هذه الركعة؛ لعموم حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقد ألف البخاري جزءاً في هذا سماه (جزء القراءة).

كذلك إذا كان الإمام يطيل الاستفتاح فإنه يشرع للمأموم أن يقرأ الفاتحة أثناء ذلك، ولا يعد ذلك مسابقة؛ لأن المسابقة تكون في الركوع والسجود لا في القراءة.