للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود)

قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها].

يعني: بقيت أعينهم مفتوحة، وهذا من حفظ الله لهم، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:١٨]، فإذا جاء أحد ودخل الغار وجد أعينهم مفتوحة أصابه الرعب وخاف؛ لأنه يرى أنهم أيقاظ بينما هم في الحقيقة نائمون، ولهذا حفظهم الله هذه المدة، فناموا ثلاثمائة سنة بالسنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع سنين بالسنة القمرية؛ لأن السنة القمرية تزيد على السنة الشمسية في كل مائة ثلاث سنوات، وفي كل مائتي سنة ست سنوات، وفي كل ثلاثمائة سنة تسع سنوات.

ولهذا قال سبحانه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:٢٥] يعني: بالسنة الشمسية، {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:٢٥] بالسنة القمرية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، ولهذا قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:١٨]، وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم].

هذا الذئب، وهو معروف بشدة الحذر، إحدى العينين تنام والأخرى مفتوحة، ثم تنام الأخرى وتفتح الثانية.

ينام بإحدى مقلتيه قوله: الرزايا في البيت معروف، وقيل: المنايا، ولعله رواية له.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:١٨] قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.

وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:١٨] قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، وقيل: بالصعيد وهو التراب، والصحيح أنه بالفناء وهو الباب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:٨] أي: مطبقة مغلقة، ويقال: وصيد وأصيد].

يعني: إن الكلب أصابه ما أصابهم من نوم، نام مثلهم في الباب، باسط ذراعيه في باب الغار، فالكلب أصابه ما أصابهم.

وهذا من حفظ الله لهم أن جعل أعينهم مفتوحة؛ حتى تأتي عليها الريح، ويقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تأكلهم الأرض.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب].

فالكلب ربض على الباب وأصابه ما أصابهم.

والإيصاد: هو الإغلاق، قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:٨] يعني: مغلقة مطبقة، والوصيد: الباب، فيغلق عليهم الباب حراسة، فالكلب بسط ذراعيه بالباب؛ فأصابه ما أصابهم، ونام معهم هذه المدة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب -كما ورد في الصحيح- ولا صورة ولا جنب ولا كافر كما ورد به الحديث الحسن].

لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، ثبت في الحديث أن جبرائيل واعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي يوماً فتأخر؛ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بعد ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تأخرت، فقال: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، وكان في الحجرة ستر فيه تمثال، فقال جبرائيل: مر بالتمثال فيقطع، فيكون قطعتين -ووجد جرواً وهو كلب صغير للحسن - وأمر بجرو الكلب فيخرج؛ فأخرج فدخل جبرائيل).

التمثال: صورة في ستر أو خرقة يستر بها الباب؛ فقطعت الصورة وأخرج الجرو فدخل جبرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن].

هذه فوائد صحبة الأخيار، حيث استفاد الكلب، وهو الآن معروف أنه من أخس الحيوانات، ومع ذلك لما صاحب الأخيار صار له شأن وذكر، فذكر معهم في القرآن وأصابه ما أصابهم، فمصاحبة الأخيار فيها خير، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صحبة الأخيار فيها فائدة عظيمة، حيث قال: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة)، يعني: هو مستفيد على كل حال، إما أن يعطيك، وإما أن يبيع عليك، وإما أن يعلق فيك رائحة طيبة، كذلك الجليس الصالح: إما أن يأمرك بالخير، وإما أن ينهاك عن الشر، وإما أن يدعوك إلى الخير ويحضك عليه، فأنت مستفيد.

قال صلى الله عليه وسلم: (وجليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً كريهة)، فكذلك جليس السوء إما أن يزهدك من الخير أو يرغبك في الشر، فأنت متضرر على كل حال.

فهذا الكلب لما صاحب الأخيار صار له ذكر وأصابه ما أصابهم، كما أن الكلب المعلم لما تعلم صار له ميزة بالعلم، وصار يصيد بالتعليم، وله حكم يختلف عن بقية الكلاب.

فأباح النبي صلى الله عليه وسلم صيد الكلب المعلم، قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)، وقال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:٤]، فالكلاب صار لها شرف بالعلم، فهذا يدل على شرف العلم، حتى الكلاب إذا تعلمت صار لها شرف ومزية على غيرها.

جاء في الصحيح: (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ).

وهذا لا شك أن فيه رخصة على أن للجنب إذا توضأ له أن ينام، لكن الحديث في السنن، ليس فيه جنب، فيحتاج إلى تأمل في صحته، أما حديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب) فهذا صحيح ثابت.

أما: (ولا جنب ولا كافر) فيحتاج إلى تأمل ونظر في صحة الحديث.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم وهو الأشبه وقيل: كلب طباخ الملك وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه فالله أعلم، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي: سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير، واسم هدهد سليمان عنقز، واسم كلب أصحاب الكهف، قطمير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت، وهبط آدم عليه السلام بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدست بيسان، والحية بأصفهان، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران].

والجبائي سماه حمران يعني: كلبهم، وكل هذه من أخبار بني إسرائيل ما عليها دليل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب].

صدق رحمه الله، ما عليها دليل ولا يترتب عليها شيء.

ولا يهمنا اسمه حمران أو غير ذلك، المهم القصة وما فيها من العبرة والفوائد، أما كون الاسم حمران أو غير حمران أو عنقز أو غير ذلك كل هذا من أخبار بني إسرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:١٨] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر؛ لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاء الله تبارك وتعالى فيهم؛ لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة].

فمن حفظ الله لهم أنه لا يدنو منهم أحد إلا أصابه الرعب؛ حتى لا يمسهم أحد، وحتى تنتهي الرقدة التي قدر الله أنهم ينامونها لما له في ذلك من الحكمة.

وفي هذا دليل على البعث، فهو من أوضح الأدلة على البعث بعد الموت, وكان المشركون ينكرون البعث بعد الموت، فالذي أنامهم هذه المدة الطويلة ثم أحياهم قادر على البعث.

فالله أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وهي مدة طويلة، ولما استيقظوا ظنوا أنه يوم واحد.

قال بعضهم: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:١٩]، قال بعضهم: لبثنا يوماً، وبعضهم قال: نصف يوم؛ لأنهم لما ناموا في أول النهار استقيظوا في آخره فظنوا أنه هذا اليوم الأول وقد مضى عليهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولا شك أن هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى على البعث، والله تعالى لا يعجزه شيء، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].