للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الموقف من أخبار أهل الكتاب]

وما جاء في كتب أهل الكتاب على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا حق مطلوب؛ لأنه وافق شرعنا.

القسم الثاني: ما جاء شرعنا بإبطاله، فهذا باطل مردود.

القسم الثالث: ما سكت عنه شرعنا، ولم يأت فيه ما يدل على بطلانه أو ما يدل على إثباته، فهذا لا يصدق ولا يكذب، كما في الحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنهم قوم قد كان فيهم الأعاجيب) وفي رواية: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم).

فلا يصدق خبرهم؛ لاحتمال أن يكون كذباً، ولا يكذب؛ لاحتمال أن يكون صدقاً، فمرويات بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، إلا إذا جاء في شرعنا ما يدل على تصديق بعضها فنصدقه، وأما إذا جاء في شرعنا ما يدل على بطلانها فنبطلها ونكذبها.

وقد ذكر هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله أن هذه الأمة خصها الله بالمحدثين والنقاد، والأئمة والجهابذة من العلماء الذين ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وقد نقحوا السنة وطهروها ونظفوها، وميزوا الوضاعين من الكذابين ومن المجهولين ومن الثقات، وأما الأمم السابقة فليس عندهم شيء من هذا، وليس لديهم إسناد، وإنما الإسناد خاص بهذه الأمة، ولهذا كثر التحريف والتبديل في الكتب السابقة، وأما القرآن الكريم فقد حفظه الله بنفسه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩]، فهو محفوظ بحفظ الله، وأما السنة فقد قيض الله لها الجهابذة والنقاد والعلماء يحفظونها، وأما الكتب السابقة فإن الله تعالى لم يتول حفظها، بل وكل حفظها إليهم فلم يحفظوها، كما قال سبحانه تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:٤٤].

أي: استحفظهم الله على حفظها فلم يحفظوها، فحرفت وبدلت، وأما القرآن فقد تولى الله حفظه بنفسه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].

قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من أكمامها.

وفسقت الفأرة من جحرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد].

أصل كلمة (الفسق): الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله، والعاصي يسمى فاسقاً، وكذلك مرتكب الكبيرة؛ لخروجهما عن طاعة الله، وسميت الفأرة فاسقة لأنها تخرج من جحرها للعيث والفساد، وتسمى الفويسقة؛ لأنها خرجت عن طبيعة غيرها بالإيذاء، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب).

فسميت هذه فواسق لأنها خرجت عن طبيعة غيرها من الحيوانات بالإيذاء والإفساد، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله إلى المعصية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه: ((أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)) أي: بدلاً عني.

ولهذا قال: ((بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)) وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:٥٩] إلى قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:٦٢]].