للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معاني الاستعاذة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل.

والاستعاذة: هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير].

قوله: (أعوذ بالله) يعني: ألتجئ وأعتصم وأستجير بك يا الله وأحتمي بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد عليّ عبادتي, فالعياذ: هو الاستجارة والاحتماء، فمن استعاذ بميت أو بغائب فقد أشرك بالله؛ لأن هذه عبادة، ومن استعاذ بحي حاضر فيما يقدر عليه فلا بأس به، فيقول: أعذني من شر أولادك, ومن شر زوجتك, ومن شر دابتك, فهذا جائز، وأما أن يستعيذ بميت أو بغائب فهذا من الشرك, فالاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام, وأما اللياذ فهو طلب الخير وتأمينه.

قوله: [والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى الله تعالى والإلتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره].

يعني: لا يكسرون عظماً يجبره الله, كما أنهم لا يجبرون كسراً كسره الله.

والشاهد قوله: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره.

فالاستعاذة تكون من الشيء الذي يحذره الإنسان, واللياذ: تأمين الخير وطلبه.

قوله: [ومعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله تعالى في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:٢٠٠].

وقال تعالى في سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:١]: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:٩٦ - ٩٨].

وقال تعالى في سورة (حم) السجدة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:٣٤ - ٣٦].

الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن، إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار].

أي: مشتقٌ من شطن إذا بعد، أو من شاط إذا احترق؛ لأن الشيطان مخلوق من نار, أو من شطن لبعده عن بني آدم، وبعده عن الخير بفسقه.

قوله: [ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام: أيما شاطٍ عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال].

قال الشاعر: (ثم يلقى في السجن والأغلال) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:٣٧ - ٣٨] يعني: سخروا له, (مقرنين في الأصفاد) أي: في الأغلال يربطون؛ ولهذا لما جاء الشيطان إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يصلى- بشهاب من نار يريد أن يحرقه، أخذه النبي وخنقه حتى وجد برد لعابه، وقال: (كدت أن أربطه في سارية من سواري المسجد, ولو فعلت للعب به صبيان أهل المدينة, لكن ذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:٣٥]) فتركه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: [فقال: أيما شاطن ولم يقل أيما شائط].

فدل على أنه مشتق من شطن، وهذا هو الشاهد، ولو كان من شاط لقال: شائط.

قوله: [وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان: نأت بسعاد عنك نوى شطون فباتت والفؤاد بها رهين].

قوله: (نوى شطون) يعني: نوى بعد، والنوى: البعد، نأت بـ سعاد، يعني: بعدت، وهذا شاهد على أنها مشتق من شطن لا من شاط، وهذا هو الأقرب؛ لأن شطن: بعد، فهو من البعد عن الخير، فهو بعيد عن الخير، وبعيد عن بني آدم وعن طباعهم.

قوله: [يقول: بعدت بها طريق بعيدة، وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط].

وهذا معروف الآن في لغتنا الدارجة، نقول: فلان تشيطن، يعني: فعل فعل الشياطين, وهذه الكلمة باقية عندنا ولا يستغرب هذا، ولا يستغرب أن تبقى كلمات من العربية.

قوله: [وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان: شيطاناً، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:١١٢].

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أوللإنس شياطين؟ قال: نعم).

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فقلت: يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان)].

وفي اللفظ الآخر: (يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل المرأة والكلب والحمار)، وهذا اللفظ لـ مسلم.

وقوله: (الكلب الأسود) يعني: شيطان الكلاب, فالحيوانات لها شيطان، وكل من خرج من طبيعته يسمى شيطاناً، ومن تمرد من الحيوانات يسمى شيطاناً, ومن تمرد من الإنس يسمى شيطاناً, وكذلك الطيور، فإذا تمردت الدجاجة وطارت تصبح شيطانة وهكذا، وكل متمرد يسمى شيطاناً، فهو ليس خاصاً بشياطين الجن, فكل متمرد يسمى شيطاناً, سواء كان من الإنس أو الدواب أو الطيور.

قوله: [وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتوني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي.

إسناده صحيح].

البرذون: لغة في البغل، وهو متولد من الخيل ومن الحمار, أمه حمارة وأبوه حصان, وإذا نزا الخيل على الحمر تولدت البغال، والبغل محرم والخيل حلال، تغليباً لجانب التحريم؛ لأنه متولد من حلال وحرام.

قوله: [والرجيم: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:٥]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:٦ - ١٠]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:١٦ - ١٨] إلى غير ذلك من الآيات، وقيل: رجيم بمعنى: راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث، والأول أشهر وأصح].

معنى الربائث: الموانع التي تمنع من الخير، وهي جمع ربيثة، وهي المانعة من الخير، فهو يرجم الناس بالوساوس وموانع الخير.