للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض)]

قال الله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:٩٤].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: أجراً عظيما.

يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:٣٦]، وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي: بعملكم وآلات البناء {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:٩٥ - ٩٦] والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وهي كاللبنة، يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه.

(حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي: وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولاً وعرضاً، واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال (قَالَ انفُخُوا) أي: أجج عليه النار حتى صار كله ناراً (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي: هو النحاس.

وزاد بعضهم: المذاب، ويستشهد بقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:١٢]، ولهذا يشبه بالبرد المحبر].

أي: القماش الذي فيه النقوش.

والسدي الكبير ثقة معروف، يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وأما السدي الصغير فكذاب.

والمعنى أنه أتى بزبر الحديد -أي: قطع الحديد- كأنها لبن، وجعل يصف قطع الحديد بين السدين حتى وصل إلى رءوس الجبال فسدها، ثم أججها بالنار، ثم صب عليها النحاس المذاب حتى يُمسك ما بين قطع الحديد، فصار يأجوج ومأجوج من ورائه لا يستطيعون الخروج، فإذا جاء أمر الله في آخر الزمان خرجوا، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:٩٧] أي: لا يستطيعون نقبه؛ لأنه حديد ونحاس، وليس عندهم آلات، فإذا جاء وعد الله خرجوا، كما قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:٩٨] أي أنهم سيخرجون بعد نزول عيسى عليه السلام.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: (ذكر لنا أن رجلاً قال: يا رسول الله! قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته).

هذا حديث مرسل].

يعني: كان فيه خطوط سوداء وخطوط حمراء، فقد خلط فيه نحاساً بحديد، يعني: قطع حديد كأنها لبن، فأحمى النحاس بالنار حتى ذاب وصبه عليه؛ حتى يمسك ما بين لبن الحديد فتتماسك، فعل ذلك من الأساس حتى حاذى رؤوس رأسي الجبلين.

وفي الحاشية: وقد روي موصولاً من طرق، رواه ابن مردويه في تفسيره -كما في تخريج الكشاف- من طريق أبي الجماهر عن سعيد بن بشير عن قتادة عن رجل عن أبي بكرة الثقفي: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيته) فذكر نحوه.

ورواه البزار في مسنده -كما في تخريج الكشاف- من طريق عبد الملك بن أبي نعامة عن يوسف بن أبي مريم عن أبي بكرة بنحوه مطولاً، ورواه ابن مردويه أيضاً من طريق سفيان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجل من أهل المدينة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، انتهى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب].

يعني: وذلك لأنه لم تكن لديهم مواصلات سريعة مثل الحال الآن، فلم تكن لديهم سيارات ولا طائرات ولا قطارات ولا بواخر في البحر كما هو الحال اليوم.