للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث عظيم في التحذير من الشرك الخفي]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بهرام - قال: قال شهر بن حوشب: قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -يعني: من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فأعاده وأبداه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله، لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت].

شهر بن حوشب هو الأشعري الشامي، قال عنه عثمان بن يزيد بن الحكم: صدوق كثير الإرسال والأوهام على الصحيح.

أما ابن غنم فقد قال في الخلاصة: عبد الرحمن بن غنم الأشعري زعم يحيى بن بكير أن له صحبة، وقال ابن يونس: قدم في السفينة، وذكره العجلي من كبار التابعين، عن عمر وعثمان، وعنه شهر بن حوشب ومكحول وعمير بن هانئ، وقال ابن عبد البر: كان أفقه أهل الشام، مات سنة ثمان وسبعين.

وأما الحافظ في الإصابة فقد رجح أنه من الصحابة.

وفي الخلاصة: والأقرب أنه من الصحابة.

وقوله: [لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت].

وفي نسخة: لا يجوز منكم إلا كما يجوز، ولكن الأقرب (لا يحور) يعني: لا يرجع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:١٤] يعني: ألا يرجع، والحور هو الرجوع، أي: لا يرجع فيكم بخير، ولا ينتفع بما حفظ من القرآن، كما لا ينتفع بالحمار الميت صاحبه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا، فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم -أيها الناس- لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من الشهوة الخفية والشرك.

فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفراً، أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟! وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟! فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلاً يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟! قالوا: نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له أو تصدق له لقد أشرك.

فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)، فقال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟! فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني)].

هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وهو يدل على أن الرياء يكون في الأعمال، وفيه أنه يُخاف على الصالحين أكثر من غيرهم، وهذا الحديث هو من الأحاديث التي استدل بها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه) فقد سمَّت الأحاديث الرياء شركاً، وسمته الشهوة الخفية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [طريق أخرى لبعضه: قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثني عبد الواحد بن زياد أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فذكرته فأبكاني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية؟ قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟! قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراءون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه).

ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به، وعبادة فيه ضعف، وفي سماعه من شداد نظر].

والشاهد هنا أن فيه دليلاً على أن الرياء يُخاف منه على الصالحين أكثر مما يُخاف على العصاة وأشد، كما في الحديث: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟! يقوم الرجل فيصلي فيزين الصلاة لما يرى من نظر الرجل إليه).

وقد جاء في الحديث أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفارة -أي: كفارة خطرات الرياء- فقال: (كفارة ذلك أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم).

فلا بد من جهاد النفس، وعلى الإنسان أن يجاهدها إذا طرأ عليه مثل هذا، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره، بل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن إذا طرأ واسترسل مع الإنسان فهل يبطل العمل أو لا يبطل العمل؟ قيل: يجازى بنيته الأولى، وقيل: يبطل العمل إذا استرسل، أما إذا كان خاطراً ودفعه فلا يضره، والواجب على المسلم أن يدافع هذه الخواطر السيئة التي ترد عليه، بأن يعلم أن الناس لن ينفعوه ولن يضروه، وأنه يجب على الإنسان أن يخلص عمله لله.

وقد جاء في الحديث: (الرياء أخطر من دبيب النمل)؛ لأنه يكون في القلوب، وهناك أشياء كثيرة مثل الرياء، كالحلف بغير الله، وكقوله: ما شاء الله وشئت، فكل هذا من الشرك الخفي.

وليس معنى هذا ترك العمل إذا طرأ الرياء، فإن من ترك لأجل الناس فقد وقع في الرياء أيضاً، كما أن العمل لأجل الناس رياء.

والرياء من الشرك الأصغر، وهو أكبر من الكبائر، وقد يقال له: الشرك الخفي، وسمي خفياً لأنه يقوم بالقلوب ولخفائه أيضاً.

والشرك نوعان: أصغر وأكبر، فالخفي هو الشرك الأصغر، فيستعاذ منه، كما في الحديث: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم)، وهذه الاستعاذة تعين على دفعه، لكن تكون الاستعاذة مع مدافعته لما يرد عليه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر حدثنا علي بن ثابت حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحداً فهو له كله).

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)، تفرد به من هذا الوجه.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء).

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - قال: أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك).

وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن بكر - وهو البرساني - به].

قال في التقريب: محمد بن بكر بن عثمان البرساني -بضم الموحدة وسكون الراء المهملة- أبو عثمان البصري، صدوق قد يخطئ.