للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[افتخار الكفار والظلمة بما هم عليه من باطل]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:١١]، وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:١١١].

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:٥٣] ولهذا قال تعالى راداً عليهم شبهتهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم: ((هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً.

وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: ((خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)) قال: المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر].

هذه الآية الكريمة فيها بيان عادة الكافرين والظالمين أنهم يفتخرون بما هم عليه من الباطل، وما أعطاهم الله من الأموال ومن الأثاث ومن الأمتعة وما لهم من الأتباع، وما أعطاهم الله من الأموال والسلطان والجاه، ويظنون أن هذا دليل على أنهم على حق، وأن المؤمنين الذين ما أعطوا مثل ما أعطوا من الأموال والأولاد والجاه والسلطان على الباطل؛ ولهذا قال قوم نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:١١١]، وأتباع الأنبياء هم الضعفاء؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان قال: (هل اتبع محمداً ضعفاء الناس وأشباههم؟ قال: نعم، اتبعه ضعفاؤهم، قال: وكذلك أتباع الأنبياء).

فهذا من باب الابتلاء والامتحان؛ ولهذا قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:٧٣] الندي: المقام من المرتبة والمكانة، والندي: المجتمع، مثل النادي، أي: مكان الاجتماع الذي يجتمع فيه هؤلاء، يقولون: نحن الآن أحسن رتبة ومكانة في المجتمع، ونادينا يجتمع فيه الأشراف والأتباع الكثيرون، فكيف يكون هؤلاء الضعفاء المختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم أحسن منا؟! لا يمكن هذا، فاستدلوا بما هم عليه من الأتباع وبما أعطوا من الأموال وبما أعطوا من القوة، وهذا ابتلاء وامتحان، وهذه الكثرة ليست دليلاً على الأحقية، وإنما الحق أحق أن يتبع، ومن ساروا على الحق فهم على الحق، ولو كانوا عدداً قليلاً؛ ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:١٧]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:٢٤٣]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٨٧]، وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣].

إذاً: ليست العبرة بكثرة الأتباع، وليست العبرة بالأموال ولا بالأولاد ولا بالشرف ولا بالجاه؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:٣٧].

هذا من الابتلاء والامتحان؛ ولهذا اغتر كفار قريش بما هم فيه وقالوا: نحن أحسن مقاماً ورئياً وأثاثاً، فقال الله سبحانه: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) أي: أحسن أثاثاً منهم وأمتعة ومنظراً وأشكالاً، وما أعطاهم الله من الأجسام ومن القوة ومن المال ومن السلطان ومن الجاه إنما هو امتحان، وكل هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله.

والواجب هو الإيمان بالله ورسوله، واتباع ما جاءت به الرسل، ثم ما جاء به خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبع شريعة الله وآمن بالله ورسوله واتبع شرعة الله فهو على الحق، ولو كان ماله قليلاً، ولو كان العدد قليلاً، ولو لم يكن له مال ولا جاه ولا سلطان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:٢٥ - ٢٦] المقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه.

وقال الله فيما قص على رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر قوم لوط: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:٢٩] والعرب تسمي المجلس: النادي].

النادي الآن هو المعروف مثل: النادي الثقافي والنادي كذا، وهو مكان لاجتماع الناس وإلقاء الكلمات وإنشاد الأشعار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة؛ فعرض أهل الشرك بما تسمعون: ((أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)) وكذا قال مجاهد والضحاك، ومنهم من قال في الأثاث: هو المال، ومنهم من قال: الثياب، ومنهم من قال: المتاع.

والرئي: المنظر، كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وقال الحسن البصري: يعني: الصور، وكذا قال مالك: ((أَثَاثًا وَرِئْيًا)): أكثر أموالاً وأحسن صوراً، والكل متقارب صحيح].

يعني: لا تغتروا يا كفار قريش بما أوتيتم من الأموال ومن الأجسام وجمالها، فليست هذه نافعة عند الله، وإنما العبرة بالأعمال والقلوب والنيات؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم).

فالقلوب هي محل نظر الرب، أما الصور والأجسام فالناس يتفاوتون فيها، هذا طويل وهذا قصير، وهذا وسيم جميل وهذا ذميم، ولكن تزول هذه الفوارق يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الحديث ما معناه: أن العبد الأسود الذي له رائحة كريهة إذا قتل وصار شهيداً تزول عنه هذه الدمامة؛ وذلك لأن أهل الجنة يكونون على صورة القمر ليلة البدر.

إذاً: من كان ذميم الخلقة ومن كان قصيراً ومن كان أسود وهو من أهل الجنة والكرامة، فإنه يكون من أحسن الناس صورة يوم القيامة، كل أهل الجنة طولهم ستون ذراعاً على طول أبيهم آدم، وأبناء ثلاث وثلاثين سنة في الشباب من أحسن الناس وصورهم من أجمل الصور، وليس فيهم ذميم الخلقة، لكن في الدنيا يتفاوت الناس فيها، منهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الجميل ومنهم الذميم، ومنهم الفقير ومنهم الغني، يتفاوتون في عقولهم وعلومهم وأجسامهم وألوانهم وأشكالهم وأعمالهم وأموالهم في الدنيا، ولله الحكمة البالغة.

أما يوم القيامة فمعروف أن الناس يتفاوتون في الجنة في الدرجات على حسب منازلهم، فالعلماء ورثة الأنبياء وهم مقدمون وأرفع درجة من غيرهم، لا شك أنهم كلهم يدخلون الجنة ثم يتقاسمون الدرجات بأعمالهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض).

ورواه مسلم من حديث سهيل، ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المرائي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل، فلا يزال كذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه.

فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض) غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه].

أي: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقة من الله -قال شريك: هي المحبة، والصيت من السماء- فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلاناً.

فينادي جبريل: إن ربكم يمق -يعني يحب- فل