للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه:٤٠] وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها.

قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:١٢]].

قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:١٢] هذا التحريم تحريم قدري، والتحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:٣] فهذا تحريم شرعي، والثاني: تحريم قدري، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:١٢] يعني منعناه قدراً وكوناً لما استقر في بيت فرعون، وألقى الله المحبة في قلب امرأة فرعون، وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:٩] وليس لهم أولاد، فأرادوا أن يرضعوه فلم يقبل المراضع أبداً، فكلما أتوا بمرضعة رفضها وتركها، وهذا معنى قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:١٢]، فجعلت أخته تطوف تتحسس وتتجسس وهم يبحثون عن مرضعة، فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:١٢]، فدلتهم على أمه؛ فلما جاءوا به إلى أمه وأعطته ثديها التقم الثدي ففرحوا بذلك وصاروا يعطونها أجرة وهي أمة ويأخذونه منها، وصارت أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرتها كما جاء في الحديث؛ وهذا معنى قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:١٢] أي: تحريم قدري.

والظاهر: أن زوجة فرعون هي التي أحبت موسى في الأول، ولذلك قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:٩] ثم قذف الله محبته في قلب فرعون وإلا لما أبقاه في بيته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجاءت أخته وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:١٢]].

يعني: يربونه لكم ويرضعونه ويقومون بشئونه؛ فيكفوكم المئونة من جهة الإرضاع والإطعام والعناية والتنظيف ويردونه عليكم، وهذا يسر أمه ويزول ما في أمه من اللوعة على ابنها، فهذا من عناية الله ولطفه بموسى وبأمه.

ولا تؤخذ صفة العين من هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩] فالمراد بها: على عنايتي، لكن صفة العين تؤخذ من حديث جابر: (إن الدجال أعور العين اليمنى وإن ربكم ليس بأعور).

فقد أخذ العلماء من هذا إثبات العين لله وأن لله عينان كريمتان، أما قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩].

وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:١٤] فمعناه: على مرأى منا وعناية، فإثبات العين إنما يؤخذ من حديث جابر.

وهذا مثل قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:٧١] فليس فيه إثبات اليدين؛ لأن الأيدي جمعت وأضيفت بالجمع وعلمنا ذلك، والعين هنا أفردت، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:٣٩].

فالله تعالى له عينان، إنما يأتي هذا إذا أضيفت إلى الرب سبحانه وتعالى: (إن ربكم ليس بأعور) مثل اليد، في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] لكن يؤخذ منه إثبات جنس العين، أما إثبات العينين فإنما يؤخذ من حديث جابر.

وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:١] فيه إثبات اليد لله، لكن إثبات اليدين يؤخذ من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] لأنها مثنى ومضافة إلى الرب سبحانه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تعني: هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة، فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها فقبله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً واستأجروها على إرضاعه، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أعظم وأجزل].

وأيقنت بما ألهمها الله في أن الله سيتم أمره، وزال القلق والخوف والهم الذي أصابها، كما قال الله: {وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:٧].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا جاء في الحديث: (مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها)].

يعني: أن الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير يأخذ الأجرة على صنعته كالحداد والنجار مثلاً، فهو يأخذ أجرة على صنعته وله أجر عند الله في أن نفع الأمة بهذه الصنعة، فكذلك أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها، فاكتسبت من جهة ابنها، مع أنها سترضعه حتى ولو دفعت هي أجراً على إرضاعه، فكذلك الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير، فهو يأخذ أجرة على هذه الصنعة ويحتسب بها معيشته ولأهله ويأجره الله على حسابه وأجره ونيته.

وروى أبو داود في المراسيل من طريق جبير بن نفير نحوه ولفظه: (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون على عدوهم به مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى هاهنا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:٤٠] أي: عليك.

{وَقَتَلْتَ نَفْسًا} [طه:٤٠] يعني: القبطي، {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:٤٠] وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله؛ ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:٢٥]].

أي: أنه ذهب وابتعد عن مملكة فرعون فليس له سلطان على هذا المكان.

والذي قال له هذا هو رجل صالح، وما يذكره بعض الناس من أنه شعيب النبي فليس بصحيح؛ لأن شعيب متقدم، وهو في زمن قوم لوط، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:٨٩] وقوم لوط في زمن إبراهيم، وبين إبراهيم وموسى دهور من الزمن، فهو رجل صالح وإن كان اسمه شعيباً فهو تشابه في الأسماء لا غير.