للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إرسال الله تعالى موسى إلى فرعون]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون، وأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما الصلاة والسلام فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:٤٧] قال: فمن ربكما؟].

قوله: فأخبراه أي: موسى وهارون.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأخبره بالذي قص الله عليك بالقرآن، قال فما تريدان؟ وذكره القتيل].

أي: القتيل الذي قتله موسى، كما قال الله في سورة الشعراء: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء:١٨ - ١٩]، أي: القتل، {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:١٩]، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:٢٠].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين.

الخطاب لموسى، وهارون معه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني: من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى].

استشار أي: فرعون، والملأ: أشرافه وكبراؤه ووزراؤه، وخاصته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهب بطريقتكم المثلى، يعني: ملكهم الذي هم فيه، والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير].

قوله: قالوا خطاب لفرعون، أي: أن الأشراف قالوا لفرعون اجمع السحرة فإنهم يقابلون موسى وعندهم قدرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بما يعمل هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي].

أي: كما قال الله: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:٤٢]، أي: مقربون إلي، فوعدهم بأنه سيقربهم، ويعطيهم الهبات وجزيل العطايا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، قال سعيد بن جبير: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء].

يحشر أي: يجتمع الناس، وأعلن بأنه سيكون اجتماع كبير للسحرة من جميع مدائن مصر مع موسى، ويحضر الناس في يوم ووقت معينين، ويجتمعون وينظرون، ويكون موسى والسحرة أمامهم، وينظر هؤلاء الجمع أيهما الذي يغلب.

السؤال

هل يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء؟

الجواب

هذا على ما جاء في الحديث قال سعيد بن جبير: حدثني ابن عباس أنه يوم عاشوراء.

وهذا اليوم محتمل أنه يوم الزينة، وظاهره أنه يوم يتزينون فيه، وأنه يوم عيد لهم، يلبسون فيه الثياب الجميلة، وليس ببعيد أنه يوم العيد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:٤٠]].

الناس كلهم في هذا الاجتماع يقولون: ننظر السحرة فإنهم سيغلبون، ولا يشكون أن السحرة سيغلَبون؛ لأنه واحد أو اثنين أمام هذا الجمع من السحرة الذين لهم دراية وعناية بالسحر لمدة طويلة، كما قال: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:١١٢]، وهم لا يشكون في أن السحرة سينتصرون، ويقولون: انظروا نجتمع فإذا غلبت السحرة اتبعنا السحرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [يعنون: موسى وهارون استهزاء بهما، فقالوا: {يَا مُوسَى} [الأعراف:١١٥] لقدرتهم بسحرهم، {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:١١٥]، {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:٤٤].

حلفوا وأقسموا بعزة فرعون؛ لتعظيمهم له، فلما ألقوا الحبال والعصي امتلأ الوادي حبالاً وعصياً، وجعلوا فيها الزئبق، وجعلت تتلوى، وصار الوادي كله حيات وعقارب تتلوى، وأقسموا بعزة فرعون أنهم سيغلبون موسى، وفرعون أعظم شيء عندهم، حتى إن موسى عليه السلام أوجس في نفسه خيفة كما قال الله: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:٦٨ - ٦٩].

فلما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة، وابتلعت جميع ما في الوادي من الحبال والعصي، فلما رأى السحرة الأمر عرفوا أن هذا ليس من صنع البشر، وأنه لا طاقة لهم به، وأيقنوا أن هذا من عند الله فآمنوا في الحال وسجدوا لله، قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١٢١ - ١٢٢].

قال لهم فرعون: إن هذه خطة مدبرة بينكم وبين موسى، ولكن سوف أعذبكم وأقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، قالوا: افعل ما تريد إنا آمنا بربنا، فقد ظهر لنا الحق، قال تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧٣]، أي: اقض ما أنت قاض، تعذب، أو تقتل، فنحن لا نبالي، فقد ظهر لنا الحق، وظهر لنا أن هذا شيء من عند الله وليس من عند البشر، فافعل ما تريد.

ولم يكن ما ألقوه حيات حقيقية كما قال الله {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦] فهي حيات: حبال وعصي جعلوا فيها الزئبق، وصارت تتلوى، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم حتى أصاب الناس رهبة، كما قال تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:١١٦]، سحروا أعين الناس، وأصاب الناس رهبة حتى أن موسى وجد في نفسه خيفة، لكن الحق يعلوا ولا يعلى عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعته، فلما عرفت السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من الله عز وجل، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]، فكلهم خروا لله سجداً، وآمنوا في الحال وتابوا، فتوعدهم فرعون وقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف:١٢٤]، يقال: إنه قتلهم، فكانوا في أول النهار سحرة كفرة وفي آخر النهار شهداء بررة، وهذا على القول بأنه قتلهم، وسيأتي الكلام فيها على ذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:١١٩]، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه].

لأنها مؤمنة رضي الله عنها.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى، ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً فلما أصبح فرعون، ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه].

أي: لما أخلف فرعون الموعد ولم يرسل معه موسى بني إسرائيل سار بهم موسى، فأرسل فرعون في المدائن وحشر الناس، وتبع موسى مع بني إسرائيل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر، وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:٦١]، وتقاربا {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم ا