للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن)]

قال الله تعالى: [{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:١٠٩ - ١١١] قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ) [طه:١٠٩] أي: يوم القيامة، ((لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} [طه:١٠٩] أي: عنده، ((إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦]].

والشفاعة لابد فيها من توفر هذين الشرطين: إذن الله للشافع بأن يشفع، ورضاه عن المشفوع عنه، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، وقال سبحانه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، وقد جمع الله بين الشرطين في قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦]، وكما في هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:١٠٩].

فلابد من الإذن للشافع، حتى ولو كان أوجه الناس وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبدأ بالشفاعة مباشرة، وإنما يسجد تحت العرش، ويحمد الله ويلهمه محامد لا يحصيها، ثم يأذن الرب سبحانه فيقال: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع)، ثم بعد ذلك إذا شفع في العصاة فيحد الله له حداً من كذا إلى كذا، فيجعل له علامة يشفع فيهم ويخرجهم من النار، وهم من رضي الله قولهم، وهم العصاة من أهل التوحيد، أما الكفرة فلا تكتب لهم الشفاعة، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨]، ولا يقبل الله أقوالهم ولا أعمالهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٨]، وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:٣٨].

وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلائق على الله عز وجل، أنه قال صلى الله عليه وسلم: (آتي تحت العرش، وأخر لله ساجداً، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود) فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء].

وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً من الناس فيدخلهم الجنة، جاء في بعضها: أن الله تعالى يشفع فيه، فيقول الله: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، وفي المرة الثانية: أخرج من كان في قلبه مثقال نصف دينار، -وفي بعضها يقول في المرة الثالثة- أخرج من كان في قلبه مثقال حبة من خردل، وفي بعض الروايات: أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث أيضاً: (يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة، من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) الحديث].

وذلك أن المعاصي -وإن عظمت وكثرت- لا تقضي على الإيمان، بل لا بد أن يبقى بقية من الإيمان، فلا يخلد صاحبها في النار، ويخرج بهذا الإيمان من النار، فالمعاصي -وإن كثرت وعظمت- لا تقضي على الإيمان؛ لكنها تضعفه ولا يبقى إلا أقل القليل، وهذا القليل يُخرج صاحبه من النار، ولا ينتهي الإيمان إلا إذا وجد الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر، فهذا هو الذي يقضي على الإيمان، وبه ينتهي الإيمان، ولا يبقى منه شيء ولا مثقال ذرة.

والمرء إذا قال: لا إله إلا الله، وأتى بناقض من نواقض الإسلام، فإنه يبطل توحيده وإيمانه، والصلاة تبطل مع عدم صحة الإيمان، ولو توضأ الإنسان وتطهر وأحسن الطهارة، ثم خرج منه ريح أو بول فإنه تنقض الطهارة وتزول، فكذلك إذا كان الإنسان يقول: لا إله إلا الله، وكان موحداً ويصلي، ثم سب الله، أو سب الرسول، أو قال: إن محمداً رسول للعرب خاصة، أو قال: إن رسالة محمد ليست للثقلين، أو ليس خاتم النبيين بل بعده رسول، أو شك في ربوبية الله أو في ألوهيته، أو شك في ملك من الملائكة، أو شك في البعث، أو في الجنة، أو في النار، فإنه يبطل توحيده.

فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله، ووحد الله، ولم يصل، فإنه يبطل توحيده؛ لأن الصلاة شرط في صحة التوحيد كما أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فالصلاة شرط في صحة الدين.

فالصلاة لا بد منها في الإيمان، والذي لا يصلي ليس عنده إيمان.

والزكاة إذا أنكرها الإنسان جاحداً بوجوبها كفر، وإن منعها بخلاً وتهاوناً يفسق، وتؤخذ منه ويؤدب، ولا يكفر على الصحيح، وقال بعض العلماء بكفره، فإن بعض العلماء يرى أن ترك الزكاة كفر، وترك الصيام كفر، وترك الحج كفر كالصلاة.

والصواب: أن هذا خاص بالصلاة؛ لأن الصلاة جاء فيها من الأدلة ما لم يأت في غيرها، وعلى هذا فإن ترك الصلاة كفر، وأما ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وترك الصوم تهاوناً أو الحج فلا يكون كفراً أكبر، وإنما يكون فاعل ذلك مرتكب كبيرة، فيعزر وعليه الوعيد الشديد، ولا يكفر إلا إذا جحد، فإذا جحد وجوب الزكاة أو وجوب الصوم أو وجوب الحج كفر، وهذا بالإجماع.

وأما إذا لم يجحد وجوب الزكاة لكن تركها بخلاً، ويعلم أن الصوم واجب وأفطر كسلاً، فإنه لا يكفر، وعليه الوعيد الشديد.

وبعض أهل العلم يرى أنه إذا ترك ركناً من أركان الإسلام فإنه يكفر، كالزكاة والصوم ولو أقر بوجوبها.

وإذا منعوها وقاتلوا عليها هذا يدل على جحدهم، وأما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم ويعزرون، فالإنسان إذا منعها وقاتل عليها هذا يدل على جحوده، فيعامل معاملة الكفار.

وجاء عن شقيق بن عبد الله أنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة.

قال الله تعالى: [وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه:١١٠] أي: يحيط علماً بالخلائق كلهم {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]، كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:٢٥٥]، وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:١١١] قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه، لا قوام له إلا به].

قوله: (الحي القيوم) قيل: إن هذا هو الاسم الأعظم، وقد جمع الله بين هذين الاسمين في ثلاثة مواضع في كتابه، قال تعالى في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥]، وقال في أول سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:١ - ٣]، وقال في هذه الآية في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:١١١].

وجميع الصفات والأسماء ترجع إلى هذين الاسمين، كالعلم والقدرة والسمع وغيرها من الصفات الذاتية، وكذلك الصفات الفعلية.

والقيوم هو: القائم بنفسه المقيم لغيره، فهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى أحد، المقيم لغيره فلا قيام لأحد إلا به سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:١١١] أي: يوم القيامة؛ فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء].

قوله: حتى يقاد للشاة الجلحاء، هذا جاء في حديث: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) والشاة الجلحاء هي: التي ليس لها قرون، فإذا نطحتها الشاة التي لها قرون فإنها تقتص منها يوم القيامة، يقول رسول الله: (فيقص بعضهم من بعض، ثم يقول الله لها: كوني تراباً)، فالحيوانات تبعث، فيقص من بعضها لبعض، ثم إذا انتهى القصاص يقول الله لها: (كوني تراباً)؛ لأنها ليس لها جنة ولا نار، وليس عليها حساب ولا عذاب، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:٤٠].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث (يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي! لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم).

وفي الصحيح (إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله وهو به مشرك؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]].

فالظالم متوعد بال