للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده)]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:٥٢ - ٥٦].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي: من صغره، ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:٨٣]، وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى الكواكب والمخلوقات فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه؛ لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفاً].

يعني: نتوقف فيه، وهذا التفصيل الذي ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله هو الحق، وهو أن أخبار بني إسرائيل على أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: ما وافق ما جاء به شرعنا، فهذا مقبول.

الحالة الثانية: ما خالف ما جاء به شرعنا، فهذا مردود.

الحالة الثالثة: ما لم يوافق ولم يخالف، فهذا يتوقف فيه ويحدث به، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).

وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى هذا في مقدمة تفسيره، ولكن نبه عليه هنا أيضاً من باب الإيضاح.

فمن ذلك ما يذكره المفسرون في قصة إبراهيم وأنه أدخله أبوه السرب وأنه خرج ونظر في النجوم وقال كذا وكذا، والله جل وعلا أخبر في كتابه في سورة الأنعام فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٧٦ - ٧٨].

وللمفسرين في هذا قولان: فمنهم من قال: إنه لم يتبين له ثم تبين له، ولكن هذا القول ضعيف.

ومنهم من قال: إنه قال هذا من باب المجادلة والمناظرة لقومه؛ ليبين لهم بطلان ما هم عليه.

وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:٤٨] لو كان الفرقان هو التوراة كما قال ذلك من قاله لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء؛ لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم، فبصرّهم الحلال والحرام، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار، وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء.

فالضياء هو التوراة، قال ابن زيد في قوله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ)) قال: الفرقان: الحق آتاه الله موسى وهارون فرق بينهما وبين فرعون، فقضى بينهم بالحق، وقرأ: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:٤١] قال: يوم بدر.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل، وذلك لدخول الواو في الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء.

يعني: على ذلك القول يكون الفرقان غير الضياء، وتكون التوراة هي الضياء، والفرقان شيء آخر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها].

ما كان من هذا النوع وهو الذي لم يأت شرعنا بإثباته ولا بإلغائه فقد توسع العلماء في روايتها، ومنهم المؤلف، فإنه ذكر كثيراً من أخبار بني إسرائيل في تفسيره، واستطرد في بعض المواضع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين، ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتَمل عليه كثيرٌ منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة.

والمقصود هاهنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من قبل ذلك.

وقوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:٥١] أي: وكان أهلاً لذلك].

وللعلماء في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ)) قولان: الأول: إن قوله: (من قبل) في صغره كما ذكر المؤلف.

والقول الثاني: إنه من قبل إنزال التوراة، وتكون الآية متصلة بما قبلها، أي: من قبل إنزال التوراة والإنجيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢]، هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره: الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:٥٢] أي: معتكفون على عبادتها.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: مر علي على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها].

لاشك أن اللعب بالشطرنج ممنوع إذا كان فيه عوض، وإن لم يكن فيه عوض فأقل أحواله الكراهة، وأقل ما فيه من المفاسد إضاعة الأوقات بلا فائدة، لكن هذا الأثر ضعيف؛ لأن سعد بن طريف رافضي متروك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:٥٣] لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال، ولهذا قال: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:٥٤]].

وهذه حجة الكفرة كلهم، وهذه هي الحجة الملعونة: اتباع الآباء والأجداد في الباطل، وهذه الحجة أنكرها الله، وهي حجة فرعون، كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١]، وحجة قريش فقد قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٧]، وقال الله عن المشركين أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:٢٢] يعني: على دين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، وفي الآية التي بعدها: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣]، نسأل الله العافية.

فالواجب على الإنسان ألا يكون إمعة، بل يتبع الحق، وإن كان الآباء والأجداد على الباطل فلا يتبعهم، وإن كانوا على الحق فيقتدي بأفعالهم الطيبة، فلا يلغي الإنسان عقله ويغمض عينيه ويكون إمعة يتبع الناس على ما هم عليه، بل يكون عنده بصيرة فيتبع الحق ويدور مع الحق حيثما دار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:٥٤] أي: الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم.

فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ)) يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أو محقاً فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك.

((قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)) أي: ربكم الذي لا إله غيره هو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات، الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء، ((وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) أي: وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه].