للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)]

قال الله تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:٦٨ - ٧٠].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: ((حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ))].

أي: لجأوا إلى القوة، وهكذا حال أهل البدع وأهل الضلال؛ فإنهم إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق لجأوا إلى القوة، فأهل البدع الآن إذا عجزوا عن مقاومة أهل السنة استدعوا السلاطين عليهم، كما فعل الجهمية في زمن المأمون؛ فإنهم استعدوا المأمون على أهل السنة لما كانت لهم القوة، وكان أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة هو رئيس القضاة في زمن المأمون، فاستعدى المأمون على أهل السنة، وألزموا بالقول بخلق القرآن، وسحب الإمام أحمد رحمه الله وضرب في تلك الفتنة، وهذه هي طريقة أهل البدع والكفر، فأهل البدع إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق أو عن مجادلتهم لجأوا إلى القوة، واستعدوا السلاطين عليهم، وقالوا: إن هؤلاء يريدون كذا ويريدون كذا، وهؤلاء يريدون قلب الحكم ويريدون كذا، وهكذا في كل زمان، والتاريخ يعيد نفسه في كل زمان.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا: ((حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ))، فجمعوا حطباً كثيراً.

قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم].

وهذا من غيظهم، فإنهم جمعوا حطباً عظيماً، والمرأة كانت إذا مرضت تنذر أن تجمع حطباً لإحراق إبراهيم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم جعلوه في جوبة من الأرض، وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد، قال شعيب الجبائي: اسمه هيزن، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة].

الله أعلم بهذا، فهذا من أخبار بني إسرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل].

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]) وحسبنا الله ونعم الوكيل، معناها: كافينا الله ونعم الوكيل، فهو المتوكل عليه سبحانه وتعالى.

والحسب: الكفاية، والحسب لا يقال إلا لله، فلا يقال: حسبي الله وفلان، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤]، فالحسب خاص بالله، وهو من العبادة الخاصة به سبحانه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣].

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا ابن هشام حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك).

ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: (لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك).

وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذلك ست عشرة سنة.

فالله أعلم.

وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى.

وقال سعيد بن جبير -ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا- قال: لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أؤمر بالمطر فأرسله، قال: وكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩]، قال: فلم تبق من الأرض نار إلا طفئت.

وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذٍ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه].

الله أعلم بهذا، فإن الله تعالى وجه الخطاب لنار إبراهيم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩]، قال العلماء: إن الله قال لها: كوني برداً وسلاماً، ولو قال: لها كوني برداً لهلك إبراهيم من شدة البرد، ولو تركها على حالها لمات إبراهيم من إحراقها، فلما قال: (كوني برداً وسلاماً) صار الجو معتدلاً لا حاراً ولا بارداً، بل برداً وسلاماً، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، فالله على كل شيء قدير، وكل المخلوقات بيد الله يصرفها كيف يشاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الثوري عن الأعمش عن شيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: ((وَسَلامًا)) قال: لا تضرِّيه].

فرج الله أسرع من كل شيء، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢]، وإبراهيم ممن يتقي الله عز وجل، وهو إمام للمتقين، ولما كان متقياً جعل الله له مخرجاً من هذه النار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: ((وَسَلامًا)) لآذى إبراهيم بردها.

وقال جويبر عن الضحاك: ((كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) قال: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله.

قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك].

لكن جويبر هذا ضعيف، وعلى هذا فهذا ضعيف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مهران حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين.

قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها].

وهذا من أخبار بني إسرائيل، والمنهال بن عمرو قال: أخبرت، وبينه وبين إبراهيم عليه السلام دهور.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقال قتادة: لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ].

وهذا ثابت في الصحيحين أن الوزغ من خبثه كان ينفخ في النار، ولهذا يستحب قتله، ومن قتله في الضربة الأولى فله كذا من الحسنات، ومن قتله في الضربة الثانية فله كذا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقاً].

لاشك في فسقه؛ لخروجه على غيره بالأذى، ومن خبثه أنه كان ينفخ في نار إبراهيم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثني عمي حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحاً، فقلت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله)].

وهذا الحديث ثابت في أحد الصحيحين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ)) أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك.

وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة].