للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)]

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:٥ - ٧].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد].

أي: أن هذه هي المناسبة بين ربط الآية بما قبلها، فإنه تعالى لما ذكر حال المنكر للبعث ذكر بعدها الدليل على إثبات البعث فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:٥]، فاستدل على البعث بالبدء، يعني: أن الذي خلقكم من تراب ثم من علقة قادر على أن يعيدكم ويبعثكم مرة أخرى، كما قال سبحانه وتعالى في آية الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧]، يعني: وهو هين عليه.

وكذلك أيضاً إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على البعث، فاستدل على البعث بدليلين: الدليل الأول: بدء خلق الإنسان؛ فإنه خلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة.

والدليل الثاني: إحياء الله الأرض بعد موتها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ)) أي: في شك ((مِنَ الْبَعْثِ)) وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة].

يعني: بعث الأجساد وإعادة الأرواح إليها.

وهذا أصل من أصول الإيمان وركن من أركان الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا به، فمن لم يؤمن بالبعث فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من قال: إن البعث إنما هو للأرواح، كالفلاسفة؛ فإن الفلاسفة يقولون: البعث للأرواح، وأما الأجساد فلا تبعث، وهذا كفر بإجماع المسلمين، بل نفس الأجساد تعاد، فإن الذرات التي استحالت تراباً يعيدها الله؛ فهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على ذلك، كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:٧٨ - ٨٠].

فالذرات التي استحالت يعيدها الله خلقاً جديداً، والإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، منه خلق ابن آدم ومنه ركب، كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه ركب)، فيعيد الله الذرات التي استحالت، ثم ينشئه الله خلقاً جديداً، فتبدل الصفات، وأما الذوات فهي هي، لكن الصفات تكون صفات أقوى من الصفات التي كانت عليها في دار الدنيا، فتتحمل مواقف وأهوال القيامة، ولهذا يعظم خلق الكافر في النار حتى يكون ضرسه مثل جبل أحد كما جاء في الحديث الصحيح، نسأل الله السلامة.

والجلود تبدل كما قال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:٥٦]، فالتبديل يكون للصفات، والمراد بالتبديل التجديد، كما جاء ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله حين رد على الزنادقة حينما شبهوا وشكوا في المتشابه من القرآن ونسبوا الله إلى الظلم وقالوا: إن الله ظالم -نعوذ بالله- إذ كيف يعذب جلوداً لم تذنب؟! فبين لهم رحمه الله أن هذا من جهلهم وضلالهم وكفرهم، وأن المراد: تجديد، وليس المراد تبديل ذوات.

فالإنسان يعاد بذاته وبجسده، ونفسه هي هي، ولما قال الجهم بن صفوان: إنه يعاد شيئاً آخر، كفره العلماء، وفتح بذلك باباً للفلاسفة فأنكروا البعث.

نسأل الله السلامة.

وكذلك الأرض عندما تبدل يكون تبديلها تبديل صفات، والذات هي هي.

فقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:٤٨]، أي: تبديل صفات لا تبديل ذات، فالناس يبعثون بذواتهم التي كانوا عليها وتبقى كما كانت لا تبدل، أما الأعمار فإنهم في الجنة يكونون كلهم شباباً، أبناء ثلاث وثلاثين، حتى الأطفال الذين ماتوا يكونون شباباً، وأما الصفات التي كانت عليها الذوات فإنها تبدل، ولهذا لا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، وأما في يوم القيامة فينشئ الله الخلق تنشأة قوية فيثبتون فيها لرؤية الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)) أي: أصل برئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام، ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين].

يعني: أن آدم خلق من تراب، وذريته كل واحد خلق من نطفة من ماء مهين، فالإنسان يخلق من ماء الرجل وماء المرأة جميعاً، إلا عيسى عليه السلام فإنه خلق من أم بلا أب، خلق بالنفخة التي نفخها جبريل في جيب درعها فولدت عيسى عليه السلام، وهكذا حواء خلقت من آدم، وأما سائر الناس فخلقوا من ذكر وأنثى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ)) وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة -قطعة من لحم- لا شكل فيها ولا تخطيط].

ذكر في هذا تطور خلق الإنسان، وأنه يخلق من مني الرجل وماء المرأة، فيكون كذلك أربعين يوماً، ثم تتطور هذه النطفة فتتحول إلى قطعة دم -علقة- ثم بعد أربعين يوماً تتحول إلى قطعة لحم -مضغة- بقدر ما يمضغ في الفم، ثم يخلق الله العظام، ثم بعد مضي أربعة أشهر يأتيه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، وجاء في بعض الأحاديث أن الملك يدخل بعد اثنين وثمانين يوماً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يشرع في التشكيل والتخطيط؛ فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء].

يعني: أن هذه المضغة من اللحم يصور الله منها يدين ورجلين ورأساً وهكذا، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح بإذن الله، ويؤمر بكتب أربع كلمات، فيقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الشقاوة والسعادة؟ فيكتب هذا وهو في بطن أمه.

وله سبحانه وتعالى الحكمة في ذلك.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ))].

فإذا أسقطت المرأة مضغة -قطعة لحم غير مخلقة- فليس لها حكم النفاس، وإنما يكون ما يخرج منها دم فساد، فتصوم وتصلي، أما إذا أسقطت قطعة لحم فيها تشكيل وتصوير؛ وفيها يد أو أصبع أو رجل أو رأس فهذا إنسان، فيكون حكمها حكم النفاس، والدم الخارج منها دم نفاس، ويكون هذا آدمي يغسل ويصلى عليه ويدفن ويعق عنه ويسمى.

ولو كان ميتاً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) أي: كما تشاهدونها، ((لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ((مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها وشقي أو سعيد.

كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح).

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة، لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً، وإن قيل: مخلقة قال: أي رب! ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال له: اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ثم تلا عامر الشعبي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُ