للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:٢٩]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو وضع الإحرام، من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ونحو ذلك، وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه، وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي].

فقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:٢٩]، يعني: يتحلل من إحرامه بأن يحلق رأسه أو يقصره بعد أن يرمي جمرة العقبة ثم يتحلل، وله بعد ذلك أن يقص شاربه وأظفاره، فقوله: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:٢٩] يعني: يتنظف بأن يتحلل ثم يتوضأ، وكذلك في العمرة يتحلل إذا طاف وسعى وقصر من شعر رأسه أو حلق، فقضاء التفث يعني: التحلل وإزالة الأوساخ.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عكرمة عن ابن عباس: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:٢٩]، قال: التفث المناسك، وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البدن].

يعني: إذا نذر أن ينحر إبلاً مثلاً، فلابد أن يفي بنذره، فإذا نذر أن يذبح عشراً من الإبل أو خمساً فإنه ينحرها يوم العيد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩]، نذر الحج والهدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج].

ونحن نعلم أن الوفاء بالنذر عام، لكن هذا المذكور في الآية نذر يتعلق بالحج، فإذا نذر مثلاً أن يذبح في مكة كذا من الإبل أو من البقر أو من الغنم، فيجب عليه أن يفي بنذره هذا؛ لأن الوفاء بالنذر واجب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩]، قال: الذبائح، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩]، كل نذر إلى أجل، وقال عكرمة: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩]، قال: حجهم، وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم: حدثني أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان في قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩] قال: نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به، وروي عن مالك نحو هذا.

وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت، قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت.

وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)].

وهذا لا شك فيه، فإن الطواف بالبيت هو آخر المناسك، كما في حديث ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن الحائض).

وثبت أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا ينفرون في حجة الوداع من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، فالطواف بالبيت هو آخر المناسك، وهو طواف الوداع، وإذا سافر ولم يرجع فعليه دم عند جمهور العلماء، يذبح في مكة، وإذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت السفر كفاه عن طواف الوداع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة].

وهذا هو الصواب، أنه يجب الطواف من وراء الحجر، وأن من دخل في أثناء الطواف في الحجر، فلا يصح طوافه، كما يفعل بعض الناس الجهلة، فإنك تجده يدخل في بعض الأطوفة بين الحجر والكعبة، وهذا لا يسمى طوافاً؛ لأنه لم يطف بالبيت، فإن جزءاً كبيراً من الحجر -يقال: ستة أذرع ونصف- يعتبر من البيت؛ وذلك أن قريشاً لما بنوا الكعبة حين تصدعت قبيل البعثة، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ خمساً وثلاثين سنة، أرادوا أن يبنوها بالمال الحلال، فجمعوا مالاً حلالاً فلم يجدوا مالاً حلالاً يكفي لبناء البيت، فقاموا ببنائه بعدما أنقصوا جزءاً منه، وهو ما يسمى بالحجر.

فهذا معنى قول المؤلف: وقصرت بهم النفقة، يعني: قصرت النفقة من الحلال، فلم تكف لبناء البيت.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة].

وإنما استلم صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانيين، وهما: الركن الذي فيه الحجر الأسود، والركن اليماني الآخر، فهذان الركنان استلمهما؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان يليان الحجر؛ وهما الشامي والعراقي، فلم يستلمهما؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم.

ولهذا ثبت أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، طاف بالبيت وجعل يستلم الأركان الأربعة كلها، فأنكر عليه عبد الله بن عباس وقال: لا يستلم إلا الركنان اليمانيان، فقال معاوية رضي الله عنه لـ ابن عباس: يا ابن عباس! أفي البيت شيء مهجور؟ فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١]، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال له: صدقت، فرجع إلى قوله.

ولما بنى عبد الله بن الزبير الكعبة في خلافته، وأدخل الحجر فيها، صارت الأركان الأربعة كلها على قواعد إبراهيم، فجعل يستلم الأركان الأربعة كلها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن هشام بن حجير عن رجل عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه.

وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩]، قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح، وقال خصيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.

وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه، وكذا قال قتادة.

وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد: لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك].

ولهذا أهلك الله أبرهة الحبشي لما أراده بالسوء، حين جاء من اليمن ومعه الفيلة فأهلكه الله، وجعله عبرة للمعتبرين، وأنزل الله في شأنه سورة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة الفيل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:١ - ٥]، نعم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة، وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار)، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به، وقال: إن كان صحيحاً، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلاً].

ولعل الصواب في السند محمد بن سهل البخاري وليس النجاري ومثلما قال ابن جرير رحمه الله عن هذه المعاني لمعنى العتيق، فإن كل هذه المعاني صحيحة، فالعتيق يعني: لقدمه، ولهذا يقول العلماء: الصلاة في المسجد العتيق أفضل من الصلاة في المسجد الج