للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)]

قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:٥٢ - ٥٤].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم].

نعم قصة الغرانيق هذه مشهورة، وملخصها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:١٩ - ٢٠]، وهذه هي الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب، فاللات: صنم لأهل الطائف، والعزى: شجرة يعبدها قريش، ومناة: بالمشلل لأهل المدينة، فألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، وإن شافعتهن لترتجى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السورة سورة النجم سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون، وشاع أن قريشاً أسلمت، فجاء المهاجرون من الحبشة ظناً منهم أن أهل مكة أسلموا، ثم بعد ذلك أحكم الله آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، فعاد المشركون إلى أشد ما كانوا عليه من الإيذاء، ولكن سندها ضعيف، وطرقها كلها مرسلة.

ولكن ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن مجموع الروايات قد يشد بعضها بعضاً، والشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكر هذه القصة، وأخذ العبرة منها، وإن كان لا يلزمه إثباتها، فذكر هذه القصة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاف من الله خوفاً عظيماً، لما ألقى الشيطان على لسانه في أمنيته، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بهذه المثابة فكيف بغيره؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:١٩ - ٢٠]، قال: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى.

وإن شفاعتهن ترتجى)].

في لفظ: لترتجى.

قال: [(قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:٥٢])].

فقوله: ((إِلَّا إِذَا تَمَنَّى)) أي: إذا تلا، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:٥٢] أي: في تلاوته.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما أحسب، الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم، حتى انتهى إلى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:١٩])].

وذكر بقيته، ثم قال البزار: لا يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور.

وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس].

ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية عن السدي مرسلاً، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً، وقال قتادة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى.

وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون) وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها]، يعني: أجرى على أسماعهم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فزلت بها ألسنتهم، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:٥٢]، الآية.

فدحر الله الشيطان.

ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: (أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:١٩ - ٢١]، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه.

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً، فرفع ملء كفه تراباً فسجد عليه) فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم.

ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعاً، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:٥٢ - ٥٣].

فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم.

وهذا أيضًا مرسل.

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) فلم يجز به موسى بن عقبة].

يعني: لم يتجاوز موسى بن عقبة.

المقصود أن قصة الغرانيق، كلها أسانيدها مرسلة، يعني: ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف عن الصحابة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وساقه من مغازيه بنحوه قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة.

قلت: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم.

وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته.

وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب (الشفاء) لهذا