للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً)

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٥٨ - ٦٠].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله، {ثُمَّ قُتِلُوا} [الحج:٥٨]، أي: في الجهاد، {أَوْ مَاتُوا} [الحج:٥٨]، أي: حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:١٠٠]، وقوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:٥٨]، أي: ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:٥٨ - ٥٩]، أي: الجنة، كما قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:٨٨ - ٨٩]، فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم، كما قال هاهنا: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:٥٨]، ثم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} [الحج:٥٩]، أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، {حَلِيمٌ} [الحج:٥٩]، أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩]، والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم].

وهذا فيه تنويه بالمهاجرين والمجاهدين وفضلهم، فالمهاجر في سبيل الله والمجاهد ثوابهما عظيم وأجرهما كبير، ولهذا نوه الله بفضل المجاهد في هذه الآية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:٥٨ - ٥٩]، وهذا فيه وعد بالرزق الحسن، وما بالك برزق وصفه الله بأنه حسن؟! وإدخالهم مدخلاً يرضونه، فهم أحياء عند ربهم، وأرواحهم تتنعم بواسطة حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ترد أنهارها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وهذا خاص بالشهداء.

وأما المؤمن غير الشهيد فإنه إذا مات فإن روحه تنقل إلى الجنة، وتتنعم وحدها، وتأخذ شكل طائر، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن على طائر علق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)، يعني: أنه يأكل من شجر الجنة يتنعم وحده.

فالشهيد أفضل تنعماً، فإن روحه تتنعم بواسطة حواصل طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم وأتلفوها في الله فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها؛ لأن المؤمن إذا مات تنقل روحه إلى الجنة، والكافر تنقل روحه إلى النار، والعياذ بالله، ولها صلة بالجسد؛ بأن تتنعم أو تعذب بواسطة الجسد، ولكن النعيم والعذاب في البرزخ على الروح أكمل، والأحكام على الروح أغلب.

وكذلك أيضاً الشهيد له فضل عظيم، ومن ذلك: أنه يأمن من الفتان في القبر، ولا يناله من الألم عند موته إلا كما يألم من قرصته عقرب، أي: إلا من جنس ألم القرصة، ويجري عليه رزقه كل يوم، وله فضل عظيم.

والهجرة من بلاد الكفار واجبة مع القدرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح، عن ابن الحارث يعني: عبد الكريم عن ابن عقبة يعني: أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان يعني: الفارسي رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين، واقرءوا إن شئتم: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:٥٨ - ٥٩])].

الفتانان هما منكر ونكير، وفيه أن من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه الرزق كل يوم، وأمن من الفتان، أي: فتان القبر، وهو السؤال، وجاء في الحديث الآخر: (قيل: يا رسول الله! هل يفتن الشهيد في قبره؟ قال: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة).

وهذا من خصائص الشهيد: أنه لا يفتن، ولا يسأل.

والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:١٠٠]، فإذا مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا زيد بن بشر أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس، ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجنازتين: إحداهما: قتيل، والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج:٥٨]، حتى بلغ آخر الآية].

يعني: أن الله تعالى سوى بين من قتل أو مات فحكم كل منهما أنه شهيد، فمن مات وهو في الطريق أو في وقت القتال أو في غير وقت القتال فحكمه حكم الشهيد.

كما قال تعالى في الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:١٠٠].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة حدثنا سلامان بن عامرالشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، إن الله يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:٥٨]، الآيتين.

فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه، ورزقت رزقًا حسنًا والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت].

وذلك لأن الله تعالى أخبر أن من قتل أو مات له هذان الرزقان: أن يرزقه الله رزقاً حسناً، ويدخله مدخلاً يرضاه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما: قتيل، والآخر: متوفى، فذكر نحو ما تقدم].