للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل هذه الأمة والتخفيف عنها]

قال المؤلف رحمه الله: [أي: يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر إلى ثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.

وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال لـ معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثهما أميرين إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا)، والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] يعني: من ضيق].

وأخذ العلماء من هذه الآية قاعدة: وهي نفي الحرج، وكذلك قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧]، فقد أخذ العلماء من هذه الآيات نفي الحرج، ونفي الضيق، وأنه لا واجب مع عجز، ولا محرم مع ضرورة، فكل هذه القواعد أخذت من هذه النصوص، وهذه الآيات: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨].

إذاً: فمن التخفيف أن الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين في السفر وفي الخوف إلى ركعة، ويصليها للقبلة وإلى غير القبلة، وصلاة النافلة يصليها إلى غير القبلة في السفر، ويصلي المريض قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز فعلى جنب، وفي حديث عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فكل هذا من رفع الحرج.

فالحمد لله على هذه الشريعة السمحة.

قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:٧٨]، قال ابن جرير: نصب على تقدير {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨] أي: من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم، قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم].

وسعه عليكم كملة إبراهيم.

فكملة: أتت هنا مجرورة لكنها منصوبة على تقدير: على نزع الخافض؛ لأنه التقدير (كملة).

قال المؤلف رحمه الله: [قلت: وهذا المعنى في هذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام:١٦١].

وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:٧٨]، وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:٧٨] قال: الله عز وجل، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:٧٨] يعني: إبراهيم، وذلك قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكْ} [البقرة:١٢٨]، قال ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:٧٨]، قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر، {وَفِي هَذَا} [الحج:٧٨] يعني: القرآن.

وكذا قال غيره، قلت: وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]].

فيكون الضمير في قوله: (هو) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعود إلى إبراهيم، والصواب أنه يعود إلى الله، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:٧٨] أي: في الكتب السابقة وفي الذكر وفي اللوح المحفوظ وفي القرآن، فالله تعالى هو سماهم المسلمين.

والقول الثاني: أن الضمير في قوله: (هو سماكم) يعود إلى إبراهيم، والقول الأول: أنه يعود إلى الله هو الصواب؛ بدليل قوله بعد ذلك: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:٧٨]، فكل هذه الضمائر تعود إلى الله عز وجل.

قال المؤلف رحمه الله: [ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة].

يعني: بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبأنها ملة أبيهم إبراهيم.

قال المؤلف رحمه الله: [ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:٧٨] أي: من قبل هذا القرآن، {وَفِي هَذَا} [الحج:٧٨].

وروى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله).

وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١] من سورة البقرة، ولهذا قال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:٧٨] أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولاً خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:٧٨]، لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣]، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته].

أي: أن نوح يوم القيامة يسأله الله: هل بلغت؟ فيسأل أمته فتنكر، فتشهد هذه الأمة عليهم، فيقولون: كيف تشهدون علينا وأنتم ما حضرتم؟ فقالوا: بعث الله لنا نبياً، وأنزل عليه القرآن، وأخبرنا أن نوحاً بلغكم، فنحن نشهد، فتشهد هذه الأمة على الأمم، ثم يشهد عليها الرسول، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣].

والحديث الأول: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم) فيه وعيد شديد، وأن هذا من الكبائر، فمن دعا بدعوة جاهلية فقد ارتكب كبيرة من الكبائر؛ لهذا الوعيد الشديد.

قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:٧٨] أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة.

وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:٧٨] أي: اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به، {هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:٧٨] أي: حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم.

{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:٧٨] يعني: نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء، قال وهيب بن الورد: يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك رواه ابن أبي حاتم والله تعالى أعلم.

وله الحمد والمنة والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة في سائر الأفعال والأقوال، هذا آخر تفسير سورة الحج.

وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين].

قول وهيب بن الورد من الآثار الإسرائيلية؛ لأن وهيب بن الورد لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافة، فيستأنس به ولا يعول عليه.