للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث وائل في جلوس التشهد]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب كيف الجلوس للتشهد.

حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله عنه أنه قال: قلت: (لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فكبر، فرفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما إلى مثل ذلك، قال: ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يديه: اليسرى على فخذه اليسرى، وحد مرفقه الأيمن على فخذه الأيمن، وقبض ثنتين وحلق حلقة، ورأيته يقول هكذا وحلق بشر الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة)].

التشهد هو قراءة: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وسمي تشهداً لأنه مشتمل على التشهد وهو: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد، أن محمداً رسول الله، أي: الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

والصلاة إما أن يكون فيها تشهد واحد، وإما أن يكون فيها تشهدان، فإن كانت ثنائية ففيها تشهد واحد، وإن كانت ثلاثية أو رباعية ففيها تشهدان: التشهد الأول والتشهد الأخير الذي قبل السلام، والجلوس في الصلاة جلوسان: جلوس للتشهد الأول، وجلوس للتشهد الأخير.

وقد اختلف العلماء في كيفية الجلوس في التشهد وغير التشهد، فمنهم من قال: إن الجلوس يكون بالافتراش مطلقاً، وهو أن يفرش رجله اليسرى ويقعد عليها، وينصب الرجل اليمنى ويجعل أصابعها متجهة إلى القبلة.

وقال بعضهم: بالتورك مطلقاً، أي أنه يخرج رجله اليسرى من تحت ساقه الأيمن إلى جهة اليمين، ويجعل وركه على الأرض.

وفرق بعض أهل العلم بين الجلوس بين السجدتين والجلوس في التشهد الأول، فجعل فيهما الافتراش، وجعل في التشهد الأخير في الصلاة التي لها تشهدان: التورك.

وقد جاء الافتراش في الجلوس بين السجدتين، وجاء أيضاً الإقعاء، وهو الجلوس على العقبين، كما في حديث ابن عباس حيث قال: (سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، أو هو من السنة)، يعني: أن ينصب قدميه، ويجعل إليتيه على العقبين.

وأما التشهد الأول فيفترش فيه، والتشهد الأخير يتورك فيه، وهذا هو ما دل عليه الدليل.

وإذا كانت الصلاة ثنائية فهل يتورك فيها أو يفترش؟ ألحق بعض أهل العلم الثنائية بالتشهد الأول، وقال: إنه يفترش فيها، وألحق بعضهم الثنائية بالصلاة التي لها تشهدان، وقال: إنه يتورك؛ لأن هذا الجلوس بعده التسليم، كما أن الصلاة الرباعية يتورك في آخرها في الجلوس الذي بعده التسليم وقد جاء في بعض الأحاديث: (حتى إذا كان الجلوس الذي فيه التسليم)، وعلى هذا فهناك قولان: القول الأول: إن الصلاة الثنائية حكمها الافتراش كالتشهد الأول، والقول الثاني: إن الصلاة الثنائية يتورك فيها؛ لأن السلام يأتي بعد ذلك الجلوس، وقد جاء في بعض الروايات أن التورك يكون في الجلوس الذي بعده التسليم، لكن الروايات التي جاء فيها ذكر الجلوس الذي بعده التسليم إنما جاء ذلك في الصلاة الرباعية، فقد ذكر الجلوس الأول ثم ذكر الجلوس الثاني الذي بعده التسليم، وعلى هذا فالقول الأرجح فيما يظهر أن الجلوس في الصلاة الثنائية كالجلوس في التشهد الأول وليس كالجلوس في التشهد الأخير في الصلاة الرباعية، لأنه جاء التنصيص على أن الجلوس في التشهد متوركاً إنما يكون في الصلاة الرباعية ومثلها الثلاثية لأن فيها تشهدين.

إذاً فقول المصنف: [باب كيف الجلوس في التشهد] معناه بيان الهيئة التي يكون عليها الإنسان جالساً وهو في تشهده، سواء كان الأول أو الآخر، أو الجلوس في الثنائية التي ليس فيها إلا تشهد واحد، والأرجح في هذا كما ذكرت أن الغالب الافتراش بين السجدتين، ويجوز الإتيان بالجلوس على العقبين في بعض الأحيان، وفي التشهد الأول والصلاة الثنائية يكون الافتراش، وفي الصلاة الرباعية أو الثلاثية يكون التورك في التشهد الأخير.

وأورد المصنف حديث وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه الذي وصف فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [قل (لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلي)].

قول وائل بن حجر رضي الله عنه: [قلت] إما أن يكون قال ذلك في نفسه بمعنى أنه ألزم نفسه وهيأ نفسه لهذا، وأنه يريد أن يفعل ذلك حتى يعرف كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قال ذلك لغيره، وهو دال على حرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم على معرفة السنن ومعرفة الأحكام الشرعية قولاً وفعلاً، وذلك أن وائل بن حجر رضي الله عنه يريد أن يتأمل ويتحقق من كيفيتها ومن هيئتها حتى يكون مقبلاً ومستعداً ومتهيأً ليس عنده غفلة في النظر إلى صلاته صلى الله عليه وسلم، بل يكون عنده الإقبال والرغبة والحرص والتهيؤ، فهذا هو معنى قوله: (لأنظرن إلى صلاة رسول الله).

وعمدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الأسوة والقدوة، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).

فهذا هو الذي جعل وائل بن حجر رضي الله عنه يقول: [(لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم إنه نفذ ذلك فقال: [(فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فكبر)].

يعني أنه لابد من القيام في الصلاة، فالإنسان يصلي قائماً إذا كان يستطيع القيام، وأما إذا كان لا يستطيع القيام فإنه يصلي على حسب حاله، كما سبق أن مر بنا في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، ومر بنا أنه لو صلى الفرض قاعداً مع قدرته على القيام لم تصح صلاته، وأما في النافلة فيصح أن يصلي قاعداً مع قدرته على القيام لكن أجره على النصف من أجر القائم كما جاءت في ذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (قام فاستقبل القبلة) فيه أنه لابد للإنسان عند القيام للصلاة أن يستقبل القبلة، واستقبالها شرط من شروط الصلاة بالنسبة للفريضة، وكذلك بالنسبة للنافلة إلا إذا كان الإنسان راكباً فإنه يدخل في الصلاة مستقبل القبلة ثم يصلي حيثما توجهت به راحلته كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وكبر) أي دخل في الصلاة، وهذه هي تكبيرة الإحرام، وهي ركن من أركان الصلاة.

وسميت تكبيرة الإحرام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير) أي: أن الإنسان إذا وجد منه التكبير في الإحرام حرم عليه بهذا العمل أمور كانت حلالاً له قبل ذلك، كالأكل والشرب والكلام والالتفات والذهاب والإياب والقيام والقعود وغير ذلك.

قوله: [(ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه)].

أي: أنه عندما كبر للإحرام رفع يديه حتى حاذتا أذنيه، وهذه هي السنة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

قوله: [(ثم أخذ شماله بيمينه)].

أي: وضع اليمنى على اليسرى على الصدر وذلك بعدما رفع يديه ودخل في الصلاة وكيفيه وضعها أن تكون على الساعد -أي: الذراع- وعلى الرسغ الذي هو المفصل وعلى الكف، فتكون اليد اليمنى على الأمور الثلاثة، ولا تكون على الكف وحده أو على الذراع وحده أو تكون على العضد وإنما تكون على الهيئة التي ذكرنا.

قوله: [(فلما أراد أن يركع رفعهما إلى مثل ذلك)].

أي: إلى حذاء الأذنين، ورفع اليدين في الصلاة ثبت في ثلاثة مواضع: عند الإحرام، وعند الركوع، وعند رفعه من الركوع، وجاء في صحيح البخاري موضع رابع وهو عند القيام من التشهد الأول في الصلاة التي لها تشهدان، فهذه المواضع الأربعة ثلاثة منها ثبتت في الصحيحين وواحد منها ثبت في صحيح البخاري.

قوله: [(ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضعه يده اليسرى على فخذه اليسرى)].

هذا فيه اختصار؛ لأنه ما ذكر الركوع.

قوله: [(ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين وحلق حلقة، ورأيته يقول: هكذا وحلق بشر الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة)].

يعني جعل الوسطى مع الإبهام حلقة، وأما الخنصر والبنصر فقد قبضهما وأشار بسبابته، وهذه الهيئة ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك هيئة أخرى ثبتت وهي أنه يقبض الثلاث من غير تحليق ويشير بالسبابة، وتكون الإبهام على الوسطى ولكن من غير تحليق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>