للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[شرح حديث: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإسراف في الماء.

حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها.

فقال: أي بني! سل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)].

لما ذكر أبو داود رحمه الله ما يجزئ في الوضوء أتى بهذه الترجمة التي هي: [الإسراف في الماء].

يعني: عند الوضوء أو الغسل، وأن الإنسان لا يسرف ولا يقلل بحيث يقصر في استيعاب الأعضاء، ويكون فيه شيء من التقصير بسبب التقليل، وإنما يعتدل ويتوسط، فيسبغ الوضوء ولكن بدون إسراف فلا يزيد عن ثلاث مرات وإلا فقد تجاوز الحدود.

أورد أبو داود حديث عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه أنه سمع ابنه يقول: (اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها)، فأنكر عليه هذا السؤال وقال: (سل الله الجنة وتعوذ به من النار) يعني: يكفيك أنك تسأل الله الجنة، والمهم أن تدخل الجنة وأن تسلم من النار، أما أن تسأل شيئاً معيناً في الجنة، وأن يكون قصراً أبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فهذا من الاعتداء في الدعاء.

والاعتداء في الدعاء هو: أن يسأل الإنسان منزلة لا يستحقها، ويسأل شيئاً يكون متعدياً فيه، ولكن كونه يسأل الله عز وجل أن يدخله الجنة وأن يعيذه من النار هذا هو الذي يحصل به المقصود، وليس فيه اعتداء، وكل مسلم يسأل الله عز وجل الجنة ويعوذ به من النار، وهذا فيه دليل أيضاً على أن العبد يعبد الله عز وجل ويرجو جنته ويخاف عذابه، ويرجو رحمته ودخوله الجنة ويخاف غضبه ودخوله النار، وليس الأمر كما تقول بعض الصوفية: إنه لا يعبد الله رغبة في جنته ولا خوفاً من ناره وإنما شوقاً إليه، فالإنسان يعبد الله محبة وخوفاً ورجاءً، كل ذلك يفعله الإنسان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدوتهم رسول الله عليه الصلاة والسلام كانوا يسألون الله الجنة ويعوذون به من النار، وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يقول: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:٨٥]، فالقول: بأن الإنسان لا يعبد الله رغبة في جنته ولا خوفاً من ناره هذا غلط، بل يعبد الله محبة وخوفاً ورجاءً.

أورد عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه سيكون في هذه الأمة أو يكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء)، وقوله: (يعتدون في الطهور) هذا محل الشاهد، يعني: أن أحدهم يتجاوز الحد بأن يسرف، وذلك مثل أن يتوضأ بأكثر من ثلاث مرات؛ فإن الزيادة على ثلاث مرات من الإسراف والتعدي، وقد جاء ما يدل على المنع منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو محل إيراد عبد الله بن مغفل رضي الله عنه الحديث للاستدلال على ما أنكره على ابنه من كونه سأل الله القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلها، فسؤال منازل النبيين، وأن يكون في درجتهم.

هذا من الاعتداء في الدعاء؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم منازل لا يساويهم فيها غيرهم؛ فهم أعلى أهل الجنة في الجنة، ولا أحد يماثلهم أو يساويهم عليهم الصلاة والسلام، فسؤال منزلتهم هذا من الاعتداء في الدعاء.

وأما ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المتحابون في الله على منابر يغبطهم الأنبياء والشهداء) فالغبطة هذه لا تدل على أن الغابط أقل من المغبوط، وإنما فيها بيان لرفعة شأن المغبوط وإن كان دون من غبطه؛ لأن الغبطة لا تعني أن كل غابط يكون دون من غبطه فيكون الأنبياء دون هؤلاء، بل الأنبياء فوقهم وفوق غيرهم، والأنبياء لهم أعلى الدرجات عليهم الصلاة والسلام، وإنما المقصود من ذلك بيان أن هذه منزلة يغبطون عليها، بمعنى: أنهم يحمدون عليها، أو يثنى عليهم فيها، لا أن الغابط لم يصل إليها أو لم يدركها؛ فإن الأنبياء هم أعلى من غيرهم، ولا يساويهم ولا يدانيهم أحد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>