للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ موسَى) بيان لزمان تلك الهزيمة، فذكر أنه من بعد موسى، ولم يبين الزمان بالتعيين، وذكر كونه من بعد موسى للإشارة إلى أن تلك الهزيمة كانت بعد أن أخرجهم موسى من ذل فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وبعد أن ظهر منهم الاستخذاء والضعف، بعد أن خرجوا من ربق الذل، حتى إن موسى عليه السلام لما دعاهم لأن يدخلوا الأرض المقدسة ظهر خورهم وضعفهم فتاهوا في الأرض أربعين سنة استردوا فيها بأسهم وذهب عنهم خور العزيمة، ثم بعد ذلك نزل بهم ما نزل؛ فقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ موسَى) فيه إشارة إلى تلك التجارب الشديدة التي كانت تنزل بهم، فهم ذلوا في مصر، ثم أعزهم الله بموسى فلم يقووا على حياة العزة وتكليفاتها من جهاد ونضال إلا بعد أن تعودوا حياة الشدة والبأس في الصحراء، ثم بعد هذه العزة دخلوا الأرض المقدسة، ثم أخرجوا منها بعد أن استناموا إلى الدعة والراحة؛ وفي هذه التجارب بيان لأطوار الأمم بأنها إن استنامت إلى الراحة واستمرأت الحياة الوادعة غلب على أمرها، ثم كان من وراء ذلك ذهاب سلطانها، حتى إذا أحست بمرارة الهزيمة، وذاقت وبال الراحة، استيقظت فيها القوي الكامنة، واستفاقت من سبات الغفلة وسكرة النعمة، فعملت على استرداد أمرها، ومقاومة عدوها.

وقوله تعالى: (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لهمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فيه بيان موضع القصة ومكان الالتفات، والاتجاه بالنظر والقلب؛ فالمعنى: ألم تنظر وتتفكر وتعتبر في أمر نبي إسرائيل عندما قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله؟ لقد وجدوا أنهم قد تفككت وحدتهم، وضاعت كلمتهم، وفقدوا كَوْنهم فاتجهوا إلى جمع الكلمة، ولم يجدوا السبيل إلا برياسة تلُمّ الشعث، وتجمع المتفرق، وكان بينهم نبي مبعوث، فعهدوا إليه أن يختار من بينهم ملكا، ليكون اختياره منزهًا عن الغرض، بعيدًا عن الهوى، لَا يقصد به إلا الخير، ولا يكون إلا في الخير، لَا خطأ فيه؛ لأنه نبي لَا ينطق عن الهوى، لقد قالوا لنبيهم: ابعث لنا ملكا. وأصل البعث الإثارة والإخراج، فمعنى (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) يتضمن أنه يفحص

<<  <  ج: ص:  >  >>