للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولذا قال تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلًا مِّنْهمْ) أي فشربوا منه وكرعوا واستراحوا حوله واستجموا قبل أن يجيء وقت الاستجمام، إلا قليلا منهم ربط الله على قلوبهم؛ وبذلك لم يطيعوا ولم يصبروا، ولم يجمعوا عزمهم متحملين التعب العاجل، في نظير النصر والظفر الآجل.

ولقد قرأ أُبي والأعمش " إلا قليلٌ " ومن المعروف أن المستثنى بعد الكلام التام الموجب يكون المستثنى منه منصوبًا، فما وجه الرفع هنا؟ قالوا: إن معنى " فشربوا " أنهم ليسوا منه؛ لأنه تبين الارتباط اللازم بين الشرب، وكونهم ليسوا منه، فقد قال تعالى: " (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فالمعنى إذن؛ فليسوا منه إلا قليل منهم "؛ فقراءة الرفع إيماء بليغ بمقتضى المنهاج العربي إلى تضمن فشربوا معنى فليسوا منه المصرح بها سابقًا. ولقد قال في ذلك الزمخشري: " قرأ أُبي والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا مع ميلهم إلى المعنى، وإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى فشربوا منه: فلم يطيعوه، حمل عليه، كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم ".

وإن لذلك فائدة بلاغية هي أنه كما قلنا إيماء إلى النتيجة المقررة للشرب، وكأنه تصريح بها، وهي أنهم ليسوا منه وقد انقطعت الصلة بينهم وبينه، فصاروا في ضفة من النهر مستريحين مستنيمين إلى هوى النفس، وطالوت ومن معه قد صاروا في الضفة الأخرى، قد فاجئوا العدو وحالوا بينه وبين الماء؛ ولذا قال سبحانه من بعد: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) اجتاز طالوت النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب، ولم ينالوا من الماء إلا ما يدفع العطش المميت؛ ولقد عبر سبحانه عن أولئك الصابرين الطائعين المدركين بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنوا مَعَهُ) للإشارة إلى أن الإيمان بالله والإذعان له سبحانه هو السبب في طلبهم العزة، وتحملهم المشاق في سبيلها، والصبر على المتاعب لنيلها، والطاعة لمن اصطفاه الله وليا لأمرهم، ومدبرا لشئونهم، وقائدًا لهم في ميدان العزة والكرامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>