للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والتوجيه الأول عندي أولى بالقبول، لأنه ليس في الآية ما يدل على قلة الإنتاج، فإن قلة المطر لاتستلزم قلة الثمر، بل قد تكون كثرة الماء معوقة عن الإنتاج لَا مكثرة له وعلى ذلك يكون المعنى: أن تلك الربوة لخصبها وطيب مناخها وتخلل الشمس لأجزائها تنتج خيرًا كثيرًا، سواء قل الماء أم كثر، متى وجد القدر المنبت.

هذان طرفا التشبيه: المشبه والمشبه به، وبقي علينا أن نبين وجه الشبه في النص السامي الكريم، وذلك بتوجيه التشبيه في جملته وسياقه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى شبه هؤلاء المنفقين عن إيمان صادق، قاصدين بإنفاقهم وجه الله جل جلاله لَا يبغون سوى رضاه، مثلهم في إنفاقهم الكثير والقليل كمثل جنة بربوة خصبة منتجة تنتج دائمًا في حال غزارة المطر، وفي حال قلته، فأكلها دائم، ونفعها مستمر، لَا يمنعون خيرهم إن لم يشكرهم الناس، ولا يؤذون في نفعهم أحدًا من الناس، ولا يراءون الناس، فصدقتهم في نماء، تنمو دائمًا في الناس بنفع ينالهم، كصدقة جارية مستمرة لَا تنقطع، ثم نفعها للمنفق دائم بما يحسه من أريحية دينية واطمئنان قلب، ولذة العبودية في الاتجاه إلى الله وحده والاستعلاء بالاستغناء عن شكر الشاكرين ومدح المادحين، ثم يعقب ذلك كله جزاء كريم من رب العالمين، يوم الدين، ولذا قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصدقة تنمو لصاحبها كما ينمو الفلو (١) يربيه صاحبه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، إِلَّا أَخَذَهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أَوْ فصيلهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ " (٢).

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) ختم سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية ليعلم الناس عظيم مراقبته سبحانه وتعالى لأحوالهم، واطلاعه على خفايا نفوسهم، فيراقبوه سبحانه في أفعالهم وأقوالهم، كما يراقبهم سبحانه، فتمتلئ قلوبهم عند العمل بعظمته، فيعملوا ما يعملون محسين بأنه مطلع على ما تخفي صدورهم،


(١) الفُلُوُّ هو المُهر.
(٢) رواه بهذا اللفظ أحمد (٩٠٦٤) في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، وبنحوه عنه أيضا رواه البخاري: الزكاة (ا١٣٢) ومسلم (١٦٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>