للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد يقال: إنهم لم يكونوا في ريب من أمره، بل كانوا جازمين بأنه ليس من عند الله، بدليل قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ صادِقِينَ) في تكذيبكم، فنقول في ذلك: إنهم كانوا جازمين في تكذيب أنه من عند الله تعالى، ولكن النص القرآني ينبههم إلى أن حالهم في مثل إدراكهم البياني وذوقهم البلاغي، وكونهم مقاول العرب، وأهل الفصاحة والبيان والدربة في القول، ومعرفة موازينه، وتنبههم الآية الكريمة إلى أن مثلهم في حالهم لَا ينبغي أن يجزموا منكرين، بل يترددوا حتى يصلوا إلى الحقيقة، في أمر هذا النوع من القول الذي لَا ينهد إلى مكانته قول من أقوالهم.

وإن الثابت في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم: " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر "، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يستمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه.

ولذلك سموه سحرا، وسموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساحرا.

ولذلك نقول: إن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارًا قاطعا بأنه ليس من عند الله؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله، وإن تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوي، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.

ومِن في قوله تعالى: (مِّمَّا نَزَّلْنَا) معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر، باعتبار أن موضع الشك هو الأمر، وقوله

<<  <  ج: ص:  >  >>