للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كبيرة إلا أحصاها. فيوم القيامة هو الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وتقوم أعمالهم من بين أيديهم وتنطق بها جوارحهم، وتُقَوَّم تلك الأعمال بقيمتها الحقيقية، ويذهب الزيف ولا يكون إلا الحق الخالص، ومعنى توفية الأجور إعطاؤها كاملة لَا نقص فيها، وإذا قلنا إن الأجر هو العطاء فإن مجازاة المسيء بقدر إساءته هو العطاء العدل.

والخطاب هنا للأشخاص لَا للنفوس وحدها، فذوق الموت للنفوس، ولكن الجزاء للأشخاص إذ تلتقي الجسوم بالنفوس، ولذلك خاطب الأشخاص فقال سبحانه: (وَإِنَّمَا تُوَفَوْنَ أجُورَكُمْ).

وإن السياق الذي ذكرنا عليه أكثر المفسرين وهو أن توفية الأجر تشمل الثواب والعقاب، ولكن أرى أن روح الآية وما اقترن بها من بعد يدل على أن الجزاء هنا هو العطاء الصرف بنعيم يوم القيامة لمن يستحقونه، فالخطاب للمؤمنين تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عند تكذيب الكذبينِ، ولذا قال سبحانه إن أول عطاء هو البعد عمت النار، فقال سبحانه: (فَمَن زُحْزِح عَنِ النَّارِ وَأدخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).

الزحزحة عن النار الإبعاد عنها، والتنحية عنها، وهو تكرار الزح بمعنى الإبعاد، والمعنى أن من أبعد عن النار بعد تكرار التنحية عنها فقد فاز فوزا مطلقا، والنص يشير إلى أن أعمال الإنسان ترديه ولا تنجيه، وأنه لكي يبعد عن النار ويتجنبها يكون كالمحتاج لمجهود، وتكرر الزح والتنحية كشيء ثابت ملازم لها، لا يبعد عنها إلا بمجهود، وذلك تصوير دقيق لعفو الله ورحمته وغفرانه، وأن المرء لا يبعد عن النار إلا بعد تكرار الرحمة والمغفرة، وأن البعد عن النار ثم دخول الجنة هو أي الفوز، وهذا كله على أساس أن الزحزحة والتنحية في الآخرة التي هي دار الجزاء، ويصح أن يكون المعنى في الدنيا، بالأخذ في أسباب التوقي من النار، ودخول الجنة، ويكون السياق هكذا: من غالب شهواته وجاهد أهواءه وإنها لصعبة المراس تحتاج إلى صبر وضبط، فإنما يزحزح نفسه عن النار بتوقي أسبابها، ويدخل نفسه الجنة، واتخاذ الوسائل الموصلة إليها، فالزحزحة هي جهاد الأهواء التي هي أسباب النار، وليس ذلك التفسير ببعيد، وإن كان الأول أوضح وأبين.

<<  <  ج: ص:  >  >>