للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وفى كل هذه الأمور التي كانت بعد قتل أخيه ما يثير العبرة، وإذا كان الغراب قد أراه كيف يواري سوءة أخيه، فإن ضميره قد استيقظ، وأصبح لا يستطيع كيف يواري سوءة فعله التي فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة؛ ولذلك صرح القرآن بأنه اعتراه الندم، ولكن في غير مندم؛ لأن الجريمة قد وقعت، ولا منجاة منها؛ ولذلك قال سبحانه: (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).

أخذ القاتل تعتريه الحسرة بعد الفعلة التي فعلها، واكتسب بها ذلك الجرم الشديد البليغ الأثر في هذا الوجود، وقد كانت حسرته للفعل الذي ارتكبه، للعجز الذي لحقه، ولصغر نفسه أمام الطائر، وهو الذي أبى واستكبر؛ لأن الله قبل قربان أخيه، ولم يقبل قربانه، وطغى على أخيه وتجبر.

والويلة والويل البلية والفضيحة، والألف في قوله تعالى: (يَا وَيْلَتَى)، هي مقلوب ياء المتكلم، مثل الألف في قوله تعالى: (. . . يَا أَسَفَى عَلَى يُوسفَ. . .). والمعنى يا " يا وليتى " أي يا فضيحتي وبليتي أقبلي فهذا وقتك، لأنى قد نزلت بي أسبابك، وهذا النداء يستعمل للتحسر وإظهار الألم النفسي، وإن هذه البلية والفضيحة اللتين نزلتا به، ويتحسر منهما، ويناديهما، وهما بين جنبيه انبعثا من قلبه، ومن فعلته التي فعلها، ومن جهله وغبائه، وعدم التفاته إلى ما يجب عليه بالنسبة لجثمان أخيه الذي كان سببا في جعله جثة هامدة، بعد أن كان لسانا نقيا وقلبا تقيا، وأخا مباركا. وقد صوَّر جهله بهذا الاستفهام التقريري الذي يصور جهله، وغفلته وحسرته، وقد حكاه الله تعالى عنه بقوله: (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).

والمعنى: أنه يقرر عجزه عن أن يكون مثل هذا الغراب، ولكنه قال ذلك بصيغة الاستفهام للتقرير والتثبيت وللحسرة على ما وقع منه، وللأسى والألم، ولذلك عبر باللفظ (أَخِي) الذي كان يوجب المودة والمحبة بدل الحسد، وما أدى إليه من قتله، وشطر لحمه، وهو جزء أبيه، فقال سوءة أخي، وحسرته ليست

<<  <  ج: ص:  >  >>