للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولقد قال سبحانه بعد ذلك: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ). والقراءة المشهورة بالتاء في (تجعلونه)، و (تخفون) (١)، وهناك قراءة صحيحة متواترة، بالياء في الاثنتين.

وقد اختلف في هذه الآية أنزلت بمكة، وهو الأصح، أو نزلت بالمدينة، والخطاب فيها ابتداء لليهود الذين غيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، والقراطيس هي الصحائف من التوراة المكتوبة أبدوا بعضها، وأخفوا أخرى، وعلى بـ " مِن " أن الآية مكية، تكون قراءة الآية سائرة على مقتضاه، فيكون الاحتجاج بنزول الآية نقضا لعموم نفيهم إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فقد نفوا مؤكدين بمن أي بأي شيء، والنفي العام ينقض بإثبات أي جزء من المنفي، والجزء الذي ذكره القرآن هو نزول التوراة، وقد كانوا يعرفونها، وإن لم يقرأوها، ويتسامعون بينهم بها، وإن لم يتداولوها؛ لأنهم قوم أميون، وكانوا يلتقون باليهود، ويعرفون أنهم أهل كتاب دونهم؛ وذلك لأن أهل مكة كانوا تجارا يذهبون إلى اليمن وإلى الشام في متاجرهم فيمكن الاحتجاج عليهم بما عند اليهود إذ يعلمونهم، والمعنى أنه ثبت أن اليهود نزل عليهم كتاب هو في أصله نور وهدى، وذلك ينقض قولكم ما أنزل الله على بشر من شيء، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى التوراة بالإكبار، لأنه كتاب من عند الله تعالى، ذكر سبحانه وتعالى ما فعله اليهود فيها مزقوها، وجعلوها قراطيس أبدوا بعضها، وأخفوا كثيرا، وليست الكثرة بمقدار ما أخفوا، ولكن بقيمته، وكان فيما أخفوا البشرى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ينكرون؛ وإن الرسالة التي أنكرتم أصلها، وألزمتم بها - فيها خيركم، وفيها رفعكم من مرتبة الأمية إلى العلم، وفهم الحقائق الدينية، ولذا قال تعالى:

(وَعُلِّمْتم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ) وعلى أن الآية مكية مع قراءة التاء، يكون على أنه بعد إثبات نزول التوراة الذي ينقض نفيهم يكون هناك التفات من الحديث عن الغائب إلى الحضور لتوبيخ اليهود على صنيعهم، فكان ثمة احتجاجان في


(١) (يجعلونه. . يبدونها. . ويخفون)، بالياء غيباً ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ الباقون بالتاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>