للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الوجود، وكما أن الزرع لَا يخرج من كمئه إلا من الله، وكما أن الله يذرأ الإنسان كهذه كلها يكون التأليف بعد النفور، والمودة بعد العداوة كذلك خلق الله تعالى هذا التأليف في النفوس؛ لتكون الجماعة القوية المتألفة المتآزرة التي يكون فيها البنيان يشد بعضه بعضا، وإن ذلك مستحيل من العبيد، وقد بين الله استحالة ذلك، فقال تعالى: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قلُوبِهِمْ) أي لو ملكت كل ما في الأرض جميعا، وأنفقته طالبا بهذا الإنفاق أن تؤلف القلوب، ما استطعت لأنك لَا تستطيع أنت ومن أن تخلقوا ذبابا، والتأليف لَا يملكه إلا الخالق، فهو ليس في مقدور أحد من العباد، ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) الاستدراك، ارتقاء في القول من قدرة الإنسان العاجز، إلى ما يملكه الخالق القادر.

وإن هذا التأليف كما قلنا هو الذي أوجد الجماعة الإسلامية الأولى التي كانت الخلية التي بذرت فيها بذرة الإسلام، فنمت وترعرعت، وكانت قوة الإسلام وقد قال الزمخشري في معنى ذلك التأليف: (التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة؛ لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإبقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لَا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا، وأنشأوا يرمون عن قوس واحد، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتواد وأماطه عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء، ويصنع فيها ما أراد، وإنه إذا كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خوارق عادات غير معجزة القرآن فهذا أشد خوارق العادات وضوحا وبيانا.

وإن الآية تدل على تأليف قلوب العرب الذين كانوا أول من خوطب بالرسالة، يستوي في ذلك المهاجري والأنصاري والأوسي والخزرجي، بهذا نما الإسلام قويا عزيزا غالبا بقوة الله وقدرته).

<<  <  ج: ص:  >  >>