للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولعل الفقهاء الذين قرروا إباحة القتال في الأشهر الحرم، قدا استمدوا حكمهم مما ذكرنا متأثرين بأحوال زمنهم، فإنه بعد أن اتسع الفتح الإسلامي صار جند المسلمين في مذأبة من الأمم المعادية تنتهز الفرص من غير هوادة أو مهادنة، فإذا رأوا المسلمين قد أغمدوا القُضب في أجفانها انقضوا عليهم، وأتوهم من مأمنهم، بل لعلهم وجدوا أن الفتوحات الإسلامية التي تمت في عهد الصديق والفاروق، وامتدت في عهد ذي النورين، لم تغمد فيها السيوف في الأشهر الحرم، لأنها كانت حربا ممتدة مستمرة موصولة غير مقطوعة، فحسبوا أن تحريم القتال في الشهر الحرام قد نسخ؛ ولكنا إذا قيدنا التحريم بالابتداء وفي غير حال مباكرة الأعداء بالاعتداء، نجد النصوص سائرة مع عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من غير تضارب يسيغ النسخ، والله سبحانه أعلم بالصواب. ولماذا حرم الله سبحانه وتعالى القتال في الشهر الحرام؛ يظهر لي أن السبب في ذلك أمران جليلان:

أحدهما: تأمين السبل في الحج، ذهابا وجيئة؛ ولذلك كان أكثرها أشهر الحج، كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلومَاتٌ. . .)، فمنع القتل فيها تأمينا للسبل، ولأمن بيت الله الحرام، وأما رجب الذي بين جمادى وشعبان فقد كان شهر الاعتمار، فيه تؤدى العمرة المندوبة انفرادا، وعلى هذا يكون تحريم القتال في الشهرالحرام ليتحقق الأمن الكامل للبلد الحرام ولحرم الله الآمن إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حرما آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ. . .).

ولعل الفقهاء الذين قالوا: إن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ لاحظوا هذا المعنى، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى صارت الصحراء العربية بوبرها ومدرها كلها تحت سلطانه، وفي ظل الله، فصار الحجيج يصلون إلى البيت الحرام آمنين، ولو كان القتال دائر الرحى في غير البلاد العربية، فظنوا النسخ، لأن التحريم حينئذ يكون قد استوفى أغراضه والغاية منه؛ واستنبطوا مع ذلك من نصوص وحوادث ما يزكي ذلك وينميه، على نظر في ذلك.

وثاني الأمرين اللذين نظنهما حكمة التحريم: أن الإسلام يكره القتل والقتال، وهو في نظره أمر بغيض لَا يلجأ إليه إلا عند الاضطرار، وإن النفوس السليمة تقر ذلك، ولذلك قال سبحانه: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>