للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بعد أن بين سبحانه أن الذين كفروا قد جحدوا بالله، وقد كثرت البينات، وقامت الدلائل القاطعة، بين السبب في غشيان الضلال قلوبهم؛ وهو أن الدنيا زينت لهم فحسبوها كل شيء وأنساهم ذلك ذكر الآخرة وما فيها من حساب وعقاب، بل إنه بسبب ضيق عقولهم انحصر تفكيرهم في هذه، وحسبوا أن لَا بعث ولا نشور، وأنكروا ذلك إنكارًا تامًا؛ ولذلك قال سبحانه: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فهي كل شيء في تفكيرهم وقد دفعهم إلى اللجاجة في الكفر والجحود أن وجدوا من لم يؤتوا حظا من الدنيا، وهم الضعفاء والفقراء والعبيد هم الذين سبقوا بالإيمان؛ ولذلك سخروا من الحق والمؤمنين إذ علموا في أنفسهم أن التقدير عند الله هو التقدير بحال الدنيا من مال وجاه، وحسب ونسب، لَا بمقدار الحق في ذاته؛ ولم يعلموا أن الله لَا ينظر إلى الأحساب والأموال والصور ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال (١)؛ ولذلك سخروا من الذين أحبوا الإيمان وأهله وقالوا: أهؤلاء الذين سبقونا بالإيمان؛ ولذلك قال سبحانه: (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يستهزئون بالذين آمنوا. ولقد قال عطاء في هذه الآية: نزلت في المنافقين: عبد الله ابن أُبي وأصحابه، كانوا يتنعمون في الدنيا، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.

وإن أهل الحق دائما ليسوا ممن نالوا حظا كبيرا في الدنيا؛ فإن أولئك أقرب إلى بذل النفوس في سبيله بعد الإيمان، والعبر كل يوم قائمة شاهدة مثبتة.

ولقد ذكر سبحانه منزلة المؤمنين الذين يستهزأ بهم فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) الذين آمنوا واتقوا الله فوق أولئك الجاهلين الجاحدين الذين كفروا بالآخرة، وآمنوا الإيمان كله بالدنيا؛ ولا ارتباط بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، بل قد يكون


(١) ذكره المنذري في الرغب والرهيب وقال: رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح واللفظ له والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

<<  <  ج: ص:  >  >>