للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله: (لا عدوى)]

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) له معنيان: أحدهما: أن (لا) نافية، ويقصد ما كان يعتقده أهل الجاهلية: من أن المرض يعدي بطبعه وبنفسه وبقوته، وليس ذلك بقدر الله وإرادته، فيكون المنفي هو ما يعتقده أهل الجاهلية في هذا، وليس المنفي أن مخالطة المريض تكون سبباً لمرض الصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بزيارة المرضى، ثم إنه ليس كل مرض يعدي هذا معنى نفي العدوى، وهو المعنى الأول.

المعنى الثاني: أن تكون (لا) هذه ناهية، (لا عدوى) يعني: لا يتسبب أحد بإعداء أحد، ويدل على هذا آخر الحديث، ويدل عليه أيضاً الحديث الذي في الصحيح: (لا يورد ممرض على مصح) وفيه أيضاً: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد).

وذلك أن مخالطة الصحيح للمريض قد تكون سبباً، والعدوى قد اتفق على وقوعها بين الأطباء، وبين العلماء، وأنها قد تتعدى إلى الصحيح، وجاءت النصوص بهذا، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه وفد من وفود العرب كان فيهم مجذوم فقال له: (ارجع فقد بايعناك)، والحديث الذي ذكرناه سابقاً: (لا يورد ممرض على مصح)، وكذلك قوله: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد) ونحو ذلك من الأحاديث، وهذه كلها تدل على أن المعنى في قوله: (لا عدوى)، المقصود به النهي، يعني: لا يكن أحدكم متسبباً في عدوى غيره، وهذا واضح ظاهر.

أما الإجماع: فإنه ثبت أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام ومعه الصحابة، وفي أثناء الطريق جاءه خبر: أن الطاعون وقع في الشام، فاستشار الصحابة، فقالت طائفة: (خرجت لأمر فامض إليه، وتوكل على الله)، وقالت طائفة أخرى: (معك بقية أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ووجهاء الناس فلا تقدم بهم على هذا الوباء)، فرجع، فعند ذلك قال له أبو عبيدة: (أفراراً من قدر الله؟ فقال: لو غيرك قالها، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم قال له: أرأيت لو كان لك إبل ومررت بواد له جانبان، جانب فيه مرعى، والجانب الآخر مجدب، أيهما ترعى؟ فقال: الذي فيه مرعى، فقال: أفليس ذلك بقدر الله؟ قال: نعم، فقال: كذلك ما فعلنا)، فهذا كلام واضح وإجماع من الصحابة، وقد رجعوا بعد أن سألوا عن ذلك، ورأوا أنه ليس مخالفاً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد ثبت عند الأطباء -ثبوتاً لا مجال لإنكاره- أن كثيراً من الأمراض تكون بسبب الجراثيم الصغيرة، وأنها تنتقل من المريض إلى الصحيح، فيحدث المرض بسبب ذلك، والشرع لا يأتي بالشيء الذي يخالف الواقع، بل يكون موافقاً له ودالاً عليه؛ لأنه وحي من عند الله جل وعلا، ويكون هذا المعنى في قوله: (لا عدوى) أرجح من المعنى الأول.