للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قطع النبي صلى الله عليه وسلم لعلائق الشرك والتشبه بأهل الجاهلية]

قال الشارح رحمه الله: [فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده، لاما رآه وسمعه.

فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد، فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار ألبتة].

والوحدانية هنا كالربوبية، والله جل وعلا هو رب كل شيء وخالقه، والمتصرف فيه، ولا أحد من الخلق يؤثر في شيء من الوجود إلا إذا جعله جل وعلا سبباً في ذلك، والله جل وعلا لم يجعل أفعال الطيور وأصواتها، وأفعال البهائم، أو أصوات الناس أو ما أشبه ذلك سبباً لجلب الخير أو جلب الشر، وقد أخبر أن الأمور كلها بيده جل وعلا، فيجب أن يوحد الإنسان ربه في هذا، ويعلم أنه هو المتوحد في التصرف والتدبير والخلق والتقدير والمشيئة، لا يقع شيء إلا بمشيئته وتدبيره، وبعد إذنه وعلمه.

ثم بعد ذلك يأتي توحيد العبادة، في أن يتجه إلى الله جل وعلا بالعبادة، ولهذا صار توحيد الربوبية دليلاً على وجوب توحيد الإلهية؛ لأنه هو المطلوب أولاً، ثم توحيد الإلهية ثانياً، وإن كان توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية، إلا أن توحيد الربوبية مستلزم توحيد الإلهية، فإذا عرفت أن الله ربك ورب كل شيء، وأنه هو الذي بيده الخير والشر، وجب عليك أن تعبده وحده، وهذا معنى التضمن، فلهذا أخبر الله جل وعلا كتابه أن الناس -بعد أن أقام عليهم الحجج- يقرون بتوحيد الربوبية في الجملة، ولكنهم يناقضون ذلك عندما يتطيرون مثلاً، أو يجعلون وساطة بينهم وبين الله في الدعوة والتوجه والتوسل وما أشبه ذلك، فيكون هذا منافياً لتوحيد الربوبية، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:٢١]، وكلهم مقرون بأن الله هو خالقهم، وخالق من قبلهم، ومن بعدهم، ليس معه خالق آخر تعالى وتقدس.

ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢]، يعني: يعلمون أن الله جل وعلا هو الذي مهد الأرض، وجعلها على هذا الوضع، وهم عليها مستقرون، ويستطيعون الانتفاع بها، والمشي على ظهرها والحرث، والسماء فوقهم ينظرون إليها ويرون عظمها، فما من مخلوق من بني آدم يعتقد أن أحداً شارك الله جل وعلا في وضع الأرض، أو في بناء السماء، كما أنه لا يوجد أحد يعتقد أن شيئاً من المخلوقات أنزل المطر من السماء، وأنبت النبات الذي يأكله الناس والأنعام، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢]، يعني: أنتم تعلمون أنه هو المتفرد فيما ذكر، فكيف إذاً تعبدون معه غيره؟ والعبادة التي تصدر منهم في مثل هذا هي أنهم يجعلون الأشجار والأحجار أو الملائكة أو الأولياء أو الجن وسائط يتوسلون بهم إلى الله، يقولون: ندعوهم، ثم هم يشفعون لنا عند الله، ويتوسطون لنا؛ فمنهم من ليس عليه ذنوب، ومنهم صالحون مقربون عند الله، هذا هو شركهم.

فما فيهم أحد يعتقد أن الشجر يدبر مع الله، أو يتصرف مع الله، بل ما فيهم أحد يعتقد أن الملائكة تدبر مع الله، وتتصرف مع الله تعالى الله وتقدس! فالإنسان يجب عليه أن يعرف الشيء الذي خاطب الله جل وعلا به عباده في كتابه، ويعرف الوضع الذي كان عليه المشركون، حتى يستفيد من ذلك، بأن يجتنب ما كانوا يفعلونه.