للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبودية لله تعالى]

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وأن محمداً عبده ورسوله) أي: وشهد بذلك.

وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد.

أي أنه مملوك لله تعالى، والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:٣٦]، فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل].

العبودية بمعنى: جريان الأحكام والأقدار والقهر على العبد، فهو مقهور جارية عليه أحكام الله وأقداره، ولا يخرج عن ربوبية الله وقهره وإحاطته وقبضته.

وهذا يشمل الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عباد لله بهذا المعنى، بمعنى أنهم تحت قهر الله وتحت قدره وتحت تصرفه، لا يخرجون عن ذلك بحال من الأحوال، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٣] يعني: ذليلاً خاضعاً يجري عليه حكم الله وقضاؤه وقدره، لا يستطيع أن يخرج عن شيء من ذلك والعبادة بهذا المعنى لا تنفع ولا تفيد، وليست مطلوبة؛ لأن هذا فعل الله، فهو الذي قهر الخلق، وهو الذي أجرى أحكامه وسلطانه عليهم، ولا أحد ينازع الله جل وعلا، فالخلق كلهم أضعف من أن ينازعوا الله في شيء من قضائه وقدره أو في ملكه وحكمه.

المعنى الثاني: (عَبْد) بمعنى: عابد، تصدر منه العبادة.

وهذا هو المطلوب، وهو الذي يمدح الإنسان عليه، فإذا كمله جاء بالمطلوب منه في هذه العبودية، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الخلق في تكميل هذه العبودية والإتيان بمرادات الله جل وعلا منها، وهذا معنى كون الله جل وعلا قد أثنى عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأنه كملها، ومن تكميلها هذه المقامات التي ذكرها الله عنه، مثل الدعوة إلى الله، قال سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩]، فهو يدعو الله ويدعو إليه، ويعبد الله ويدعو الخلق أن يعبدوه.

المقام الثاني: مقام الإتيان بالآيات التي بها تتبين نبوته وصدقه، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:٢٣]، وأعظم الآيات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق القرآن، والآيات المقصود بها الدلائل الباهرة التي تذعن العقول عندها وتصدق بأنه رسول جاء من الله جل وعلا، والقرآن من أعظمها أو هو أعظمها.

الأمر الثالث: المنة بالوحي عليه، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:١]، فـ (عبده) يعني: الذي قام بالعبودية الخاصة له.

الأمر الرابع: المنة عليه بالإسراء والمعراج، قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:١].

وكل هذه المقامات الأربعة هي من المقامات الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، إلا مقام الدعوة، فإن كل تابع له يجب أن يشاركه فيها حسب مقدرته، فإذا كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن يدعو غيره إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨] يعني: أنا أدعو على بصيرة إلى الله، ومن اتبعني كذلك يدعو على بصيرة إلى الله جل وعلا.

أما بقيتها من التحدي بالآيات بالدلائل وكذلك نزول الوحي وكذلك المعراج والإسراء فهذه من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، والله ذكره بلفظ العبودية في هذه المقامات وهي أشرفها، وصفة صلوات الله وسلامه عليه بذلك في دعوته إلى الله جل وعلا وإبلاغ رسالته وإبلاغ ما أوحاه إليه.

فهذه العبودية التي تصدر من العبد ويكون عبداً لهذا المعنى هي العبودية النافعة، وهي التي يُطلب من الإنسان أن يكون عبداً لله بها، فمعنى (عابد) أي أن العبادة تصدر منه وإذا كان عبداً لله فهو لا يخالف أمره، ولا ينازعه في حكمه، ولا يتجه بالعبادة إلى غيره، بل لابد من هذه الأمور إذا كان عبداً لله، أما إذا وزع نفسه بين ربه جل وعلا وبين غيره من المخلوقات بأن يجعل لله نصيباً وللصالحين نصيباً فهو في الواقع ليس عبداً لله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتجه إليه بعبادة واتجه بتلك العبادة إلى غيره فإن الله يتبرأ منه، ويقول -كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ويأمر جل وعلا يوم القيامة من أشرك في العمل أن يطلب أجره ممن أشرك به.

فالمقصود أن هذا أمر لازم على الناس جميعاً، فعليهم أن يعبدوه وحده، وليعلموا أنهم خلقوا لهذا، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:٥٦ - ٥٧] يعني أن الله جل وعلا ما خلقهم لشيء يريده لنفسه وإنما خلقهم ليعبدوه وحده والعبادة التي طلبت منهم هي التي تقع باختيارهم، أما الذي يقع عليهم وهم راغمون كالأقدار والقهر فهذا لا ينفع؛ لأنه ما صدر منهم وإنما هو من الله جل وعلا، وإنما الذي ينفعهم أفعالهم الاختيارية التي يفعلونها باختيارهم، وأما إذا لم يفعلوها مختارين مذعنين راغبين في ذلك محبين لفعلها مرتبطين به فمعنى ذلك أنهم ما عبدوا الله جل وعلا العبادة المطلوبة، فلفظ (العباد) هو هذا المقصود به في الواقع، أن يكونوا عباد الله بمعنى: عابدين له.