للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر)]

قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه].

سبق أن التنجيم نسبة إلى النجوم، وأنه منقسم إلى أقسام: منه ما هو جائز، ومنه ما هو كفر بالله جل وعلا، ومنه ما هو مختلف فيه كما سبق، فأما الذي هو جائز: فهو الاستدلال بها على الجهات في المسير، سواء في البحر أو في البر أو على القبلة وما أشبه ذلك.

وأما المختلف فيه: فهو تعلم منازل القمر، فإن فيه خلاف بين العلماء، منهم من أجازه وأباحه، ومنهم من كرهه.

وأما المحرم: فهو الاستدلال بطلوع الكواكب أو اقترانها أو مسيرها على أنه سيحدث في الأرض شيء من مرض، أو رياح، أو حروب، أو غلاء أسعار أو رخصها، أو سعادة أو شقاء، أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأنه يضيف الحوادث إلى غير موجدها وإلى غير خالقها.

أما ما ذكره في هذا الحديث فإنه قسم آخر، فقوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) المدمن هو: المديم على الشيء، الذي يفعل الشيء ولا يقلع عنه، بل يستديم عليه، من أدمن الشيء إذا تردد فيه وألفه، وصار ديدنه ذلك، بخلاف الذي يفعله مرة ثم يتركه، فإن هذا لا يُعد مدمناً، وإنما يكون مدمناً الذي يألف الشيء ويستمر عليه، والخمر أم الخبائث، والواقع أنه ليس المقصود بالخمر الذي هو عصير العنب أو عصير الشعير أو عصير التمر، وما يصنع من هذه الأشياء، ليس هذا المقصود، فالخمر: اسم جامع لكل ما يخامر العقل ويغطيه من كل شيء كان، سواء كان من الأمور التي يزعم أن فيها نفعاً، أو من الأمور التي هي ضرر كلها ليس فيها نفع، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩]، فإن كل شيء يكون فيه النفع للإنسان مباحاً، فإذا كان ضرره أكثر من نفعه فهو محرم، وإن كان فيه نفع، ولكن هناك أشياء من المسكرات ضررها محض ليس فيها أي نفع، وهي أنواع شتى وكثيرة جداً، وبعضها أعظم من بعض، ولكن كلها تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: مدمن الخمر، وقد جاء صلوات الله وسلامه عليه بجوامع الكلم حيث إنه قال: (كل مسكر خمر)، وقال: (وما أسكر كثيره فقليله حرام).

والسكر هو: تغطية العقل، وقد يكون بالمفتر أو بالمخدر الذي يفتر البدن ويخدره، لأنه نوع من الإسكار، فإذا اعتاد الإنسان شيئاً من ذلك فقد لا يؤثر عليه، ومع ذلك يكون حكمه ما ذكر.

والشاهد هنا قوله: (ومصدق بالسحر)، وإذا كان هذا الوعيد بحق من صدق الساحر، فكيف بالساحر نفسه؟! لهو أشد جرماً وأعظم إثماً.

وكذلك التنجيم يدخل في هذا النوع، فقد جاء في حديث ابن عباس مرفوعاً: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)، والسحر هو: ما لطف وخفي سببه، أي: خفي على بعض الناس، وهو لا يكون إلا بواسطة الشياطين، ومثله الاقتباس من النجوم بأن تجعل الحوادث المستقبلة بطلوع النجوم أو بغروبها أو بأفولها أو ما أشبه ذلك، وهذا يعد رجماً بالغيب ليس لها صلة بالحوادث أصلاً، وإنما هو كذب وافتراء على الله جل وعلا، وقد يقع شيء من ذلك فيكون فتنة لمن يصدق بهذا.

أما قوله: (لا يدخلون الجنة) القول الصحيح فيه من أقوال العلماء: أنه لا يتعرض له لا بتأويل -يعني: تفسير- ولا برد، مع الثقة بأن مرتكب الكبيرة لا يكون كافراً، ولكن هذا إلى الله جل وعلا، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر الله جل وعلا عن ذلك، فيبقى على ما أخبرا به، والخوف قائم على هذا الإنسان الذي فعل هذا الفعل، وهو على خطر عظيم، ولكنه بهذا الفعل لا يخرج من دين الإسلام، فقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، يبقى خطاب الله جل وعلا على ما قال، ويبقى آكل أموال اليتامى على خطر عظيم، ولكن أكلهم لأموال اليتامى لا يخرجهم من الدين الإسلامي، إلا أن هذا الوعيد فيهم، وأمرهم إلى الله، يجوز أن الله جل وعلا يمضي ذلك فيهم، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يعفو عنهم ولا يعاقبهم، فالأمر إليه، أما العباد فلا يجزمون بشيء، ولهذا يجب أن يُمتنع من الجزم بشيء؛ فإن الإنسان لا يخاطر بنفسه، وهكذا سائر الذنوب الكبار التي وردت فيها النصوص الشديدة، مثل: شرب الخمر، وتصديق السحر، وأكل الربا.

أما المتأول لها فإنه أيضاً على خطر ويخشى أن يكون من القول على الله بلا علم؛ لأنه عين معنىً، وليس له عليه دليل إلا عمومات الألفاظ، فالأولى أن يترك ما جاء على ما جاء، والشاهد في هذا قوله: (ومصدق بالسحر)، وعلم التأثير -تأثير النجوم بالأحوال- علم مبني على الكذب والحدس والظنون الكاذبة، وفيه أيضاً نسبة الحوادث إلى غير محدثها وموجدها، فيكون معتقد ذلك مستحقاً هذا الوعيد.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه أيضاً الطبراني والحاكم وقال صحيح، وأقره الذهبي، وتمامه: (ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه من نهر الغوطة، نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن)].

أحوال النار التي أخبر الله جل وعلا بها فوق ما تتصوره عقول الناس، فالنار التي نراها ونشاهدها تحرق كل شيء، تحرق الرطب واليابس، ولكن نار جهنم أخبرنا الله جل وعلا أن فيها شجر الزقوم، ومع أنها متناهية في الحرارة ففيها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم نهر الغوطة: الذي يجري من فروج الزواني والزانيات في نار جهنم، وهو شيء قبيح جداً يؤذي أهل النار، فهذا الذي يشرب الخمر يُسقى من هذا القبيح المنتن.

وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حق على الله جل وعلا أن يسقيه من طينة الخبال؟ فقيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة فروج أهل النار)، وكل هذه الأشياء التي وردت أنها تحصل في النار يجب الإيمان بها، وإن كانت على خلاف ما يعهده الإنسان، ثم فيها أمور أخرى: فيها حيات، وفيها عقارب، وفيها كلاب، وفيها أنواع العذاب، ومع ذلك فيها ملائكة يدبرون أمورها، ويعذبون أهلها، ولكنهم خلقوا لهذا فلا تضرهم، والله أخبر أن: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، كل هذه الأمور التي يخبر الله جل وعلا بها لا يجوز أن نقيسها على الشيء الذي نفهمه ونعرفه، وهي أمور غيبية تبنى على خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا غالب أمور الآخرة، بل كل ما بعد الموت فغالبه أنه لا يخضع للعقل، ومن أخضعه لعقله قد يصبح زنديقاً لعدم إيمانهبالله، واستيعاب علقه له؛ لأن عقل العبد قاصر، والواجب أن يؤمن العبد بكل ما أخبر الله جل وعلا به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.