للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإفراط والتفريط في محبة عيسى عليه السلام وعقيدة أهل الإسلام في ذلك]

[وقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي: خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١]، فلابد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، فليس رباً ولا إلهاً، سبحان الله عما يشركون، قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:٢٩ - ٣٦]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:١٧٢].

ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولدُ بَغيٍّ.

لعنهم الله تعالى، فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه أنه عبد الله ورسوله].

هذه العقيدة التي جاء بها الوحي من الله في عيسى تبين أنه يجب على من علم ما قاله اليهود والنصارى أن يتبرأ من هذه الأقوال، أما إذا كان الإنسان خالي الذهن من ذلك وليس عنده شيء ولا علم بما قالته هذه الطائفة ولا تلك فإن إسلامه يصح إذا شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا علم بذلك تبرأ منه، وهذا الذي ذكره بأنه لا يصح إسلام أحد يقيد بأن يكون عالماً بهذا القول الباطل، وبطلان ذلك ظاهر جداً؛ لأن هؤلاء في الواقع أهدروا حتى العقول، حيث ادعوا أن الله دخل في رحم المرأة -تعالى الله وتقدس- أو أن لله ولداً، وهذا كفر ما وصل إليه كفر الأولين، أو أن الله جل وعلا له شريك، وكذلك اليهود قابلوا هؤلاء تماماً، فهؤلاء غلوا في عيسى عليه السلام ورفعوه إلى مقام الربوبية واعتقدوا أنه رب العالمين الذي يخلق ويرزق، وأولئك اليهود جفوا في حقه حتى جعلوا أمه باغية، أي: زانية -قاتلهم الله جل وعلا- وقد نزه الله جل وعلا مريم عليها السلام من قول أعدائها، وجعل عيسى آية دالة على قدرة الله ووحدانيته، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، وليس خلق عيسى بأعجب من خلق آدم، ولهذا جعل نظيراً له، فآدم خُلق من التراب لا من دم ولا من لحم ولا من عظم، وإنما خلقه الله من التراب وكوّن منه هذا الحي العاقل المستقيم، وكذلك خلقت زوجته منه، وكون امرأة خلقت من ذكر هذا أعجب من خلق عيسى، فهي خلقت من بضعة من جسده أخذت فخلقت منها امرأة سوية، وهذا هو أصل الخلق، ثم بعد ذلك جعل الله جل وعلا نسل آدم وزوجه من نطفة من ماء مهين، فتعارف عليه الخلق كلهم، فلما جاء شيء خلاف ذلك لم تستوعبه عقولهم القاصرة، فجعلوه الله -تعالى الله وتقدس- ثم كيف استساغت عقولهم أن رب السموات والأرض يُمسك ويُصلب على عيدان، ثم يُقتل وتوضع المسامير في عينيه، ومن ثم يموت؟! هل يعتقد هذا إلا مجانين لا عقلاء؟! ثم بعد ذلك يأتي لينتقم ممن فعله، وأنه وضع نفسه كذلك لأجل أن تحط الخطايا عن بني آدم.

أي أن قدرة الله انتهت، ولا يمكن أن يغفر الخطايا حتى يمكن أعداءه من إهانته والتفل في وجهه وصفعه، ولكن الشيطان يتلاعب بعقل الإنسان حتى يجعله ألعوبة -نسأل الله العافية- فلهذا أصبح الإنسان به من الضرورة إلى سؤال الهداية الله جل وعلا بأن يهديه إلى الحق الذي ضل عنه أكثر الناس أشد من ضرورته إلى الأكل والشرب بكثير، والله جل وعلا أبطل هذه العقائد الفاسدة بالنص الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أبطل إدعاء الظلمة من اليهود، وبرأ عيسى وأمه مما رموهما به.

وفي عقائد المسلمين بالإضافة إلى هذا أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء حياً ولم يمت، وأما قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:٥٥] فالوفاة هنا المقصود بها النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:٤٢] يعني: يرسل التي توفيت في النوم.

فالنوم يسمى وفاة، ولهذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أيضاً من عقائد المسلمين في عيسى- أنه ينزل في آخر الزمان ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ويحكم بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزوله ليس معناه أنه يأتي برسالة، وإنما يأتي مجاهداً لمن أعرض عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما كونه لا يقبل الجزية ويضعها فهذا حكم أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء به، فهو من رسالته وليس نسخاً لشريعته، فهذه الأمور يجب أن يعتقدها الإنسان، وهي كونه عبداً لله جل وعلا، وكونه خلق من أنثى بلا ذكر، وكونه منزهاً عما رماه به أعداؤه، كما أنه مبرأ مما يقوله أعداؤه ممن يزعمون أنهم أتباعه وهم أعداؤه في الواقع، وكذلك كونه رُفع إلى السماء حياً، ثم نزوله في آخر الزمان، ثم يُتوفى ويدفنه المؤمنون، ثم هو روح من سائر الأرواح التي خلقها الله جل وعلا واستنطقها واستشهدها وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢]، ولهذا قال: وروح منه.

يعني: روح خلقها كسائر الأرواح.

كقوله جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:١٣] أي: (منه): خلقاً وإيجاداً.

فهذه الأمور إذا علمها الإنسان وجب عليه أن يتبرأ مما يخالفها وأن يعتقدها، بل علمها واجب؛ لأنها أنزلها الله جل وعلا في القرآن، والقرآن نحن مكلفون بالإيمان به ومعرفة ما جاء فيه، ولا يجوز لنا أن نجهله، بخلاف الأمور التي تفهم فهماً، فإن هذه مجالها واسع، وإذا أخطأ الإنسان فيها فربما يكون لخطئه عذر، أما النصوص التي نص عليها ربنا جل وعلا في كتابه وكذلك رسوله فإنه يجب أن نؤمن بها ونعتقد بمضمونها وما دلت عليه، ولا يجوز تجاهلها أو جهلها.