للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدلائل على أن القرآن كلام الله]

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: ونظيره {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:١٣]، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:١٠٢].

هو إثبات علو الله تعالى على خلقه، فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو: وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:٦]، لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته فأنزلها لنا بأمره].

والدليل على أن القرآن نازل من الله جل وعلا من وجهين: أحدهما: كلمة تنزيل، في قوله {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:٨٠].

الثاني: قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٦١]، فكلمة (من) تدل على أنه منه جل وعلا، وقولاً قاله، وقد جاءت النصوص الكثيرة تدل على هذا، وهذا واضح وجلي، والمسلمون -والحمد لله- كلهم يؤمنون بهذا، ولا يردونه، ولا يكذبون به، وإنما يكذب به من انتكست فطرته، وتغيرت عقيدته بكلام اليونان وبغيره، وبالأمور المستوردة الغريبة عن الإسلام، الذين أنكروا صفات الله جل وعلا، وأنكروا أنه يتكلم ويقول، وهذا أمر واضح البطلان.

وقد أراح الله جل وعلا المسلمين -والحمد لله- من شر هؤلاء، ومن سيطرتهم على الإسلام، لأنهم كانوا في وقت من الأوقات مسيطرين على المسلمين، وكان بيدهم القضاء والحكم وغير ذلك، فأراح الله جل وعلا المسلمين منهم، وكاد هذا المذهب الباطل أن ينسى، لولا أن كثيراً ممن يعتنق مذهب الأشاعرة يتبنى هذا القول، ويقول: إن الكلام الذي يضاف إلى الله كلام نفسي، أما كلام ينطق به ويسمع منه فهذا ينكرونه، ومع ذلك فإن هذا القول الذي يقولونه لا تقبله العقول والفطر، بل هو من أبطل الباطل، والأمر في هذا واضح -والحمد لله- ليس فيه خفاء.

أما قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:٦]، والمقصود بهذا: الامتنان على العباد، وأن الله منّ عليهم ما أعطاهم من هذه الأنعام التي ينتفعون بها: بركوبها، وبالحرث عليها، وبأكل لحومها، وبغير ذلك من المنافع الكثيرة التي منّ الله جل وعلا بها عليهم، فهو منزل لها عليهم كما ينزل المطر، وليس معنى ذلك أنها نزلت من السماء، بل يجوز أن نقول: إنه النزول من ظهور الفحول في أرحام الإناث، فتنتج وتتناسل وتتكاثر، فتكون نعمة.

كما أنه أنزل الحديد وإنزال الحديد قد يكون من الجبال، وقد يكون من أشياء مرتفعة من الأرض أو غير ذلك، وهو منّة من الله جل وعلا، منّ بها علينا، فلا يرد تنزيل القرآن بمثل هذه التي قد يكون فيها شيء من المتشابه، ومعلوم أن أهل الباطل والزيغ يتعلقون بالمتشابه، ويتركون الواضح الجلي البين، وهذه علامة اتباع الهوى.

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين، المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق، كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثاً، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين، أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء].

يقصد رحمه الله: أن الاستدلال بأسمائه وصفاته أقوى وأظهر من الاستدلال بالمعجزات التي جاءت بها الرسل، وإن كان الاستدلال بالمعجزات أقرب إلى أذهان عامة الناس، ولكن هذه إلى قلوب الخاصة أظهر وأبين، لأنه أمر مرتبط بعضه ببعض.

وعلى كلٍّ: فالدلائل على كون الله جل وعلا هو رب العباد وخالقهم، وهو المنعم عليهم، وهو الذي يجب أن يعبدوه، وهو الذي يكون مآلهم إليه، فيجازيهم بأعمالهم: لا حصر لها، فهي كثيرة جداً: في الأنفس، وفي الآفاق، وفي الأمور الخارجة عن العادة، وفي كل شأن من شئون الحياة، إذا فكر الإنسان في ذلك، فالأمر ليس مقصوراً على نوع من الأنواع.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:٨١]، قال مجاهد: أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم؟].

المقصود بالحديث في هذه الآية: القرآن، أي: أفبهذا القرآن الذي نزل عليكم تداهنون الكفار؟! تمالئونهم وتجارونهم على ما يريدون، وتتركون معاداتهم ومبادأتهم بالعداوة، وإظهار البغضاء والكراهة لهم، فإن هذا هو الذي يجب.

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثني عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ويسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق؟! والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟ وقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:٨٢]، تقدم الكلام عليها أول الباب والله تعالى أعلم].