للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آية التهديد والوعيد لمن قدم محبة الدنيا على محبة الله ورسوله]

[قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:٢٤]].

هذه الآيات من آخر ما نزل من القرآن، وهي خطاب للصحابة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله جل وعلا رسوله أن يقول لهم: إن كانت هذه الثمانية الأشياء المذكورة في الآية، أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيل الله (فتربصوا): انتظروا حتى يحل بكم العذاب، فهو تهديد ووعيد لمن كانت الدنيا بما فيها من الأقرباء والآباء والأبناء والأزواج والأموال والمساكن والتجارات، أحب إليه من الله ورسوله، ومن الجهاد في سبيله، وهذا فاسق لقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٤]، لأنه من كان بهذه الصفة فهو من الفاسقين، والفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله جل وعلا إلى المعصية.

فهذا يدلنا على وجوب تقديم محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الجهاد في سبيله على الآباء، والأبناء، والأزواج، والأموال، والمساكن الحسنة الجميلة، والمراكب، والتجارات وغيرها من أمور الدنيا، يجب على العبد أن تكون هذه أمام محبة الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الجهاد في سبيله؛ مبذولة في هذا السبيل، لا تحول بين الإنسان وبين ذلك، فإن كان يختارها فهو من الفاسقين.

وجاء في الحديث بمعنى هذه الآية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم)، لأن اتباع الدنيا ومحبتها وتقديمها لا يجتمع مع محبة الله ومحبة رسوله، والجهاد في سبيله، والمقصود بالدنيا أن ينتفع بها الإنسان، وأن تكون الدنيا في طاعة الله جل وعلا، يكتسب الإنسان بها مرضاة الله، أما إذا كان الأمر بالعكس فهي وبال وشقاء وعذاب، يزداد بها الإنسان عذاباً، وعن قريب يتركها لمن يأكلها، ولا يحمده، بل قد يكون حسرة عليه؛ لأنه يتقوى بها على المعاصي، ويكون عليه كفل من الذنوب والعذاب، لأنه هو السبب في جمعها.

وقوله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُم} [التوبة:٢٤]، إلى آخر الآية وعيد من الله جل وعلا لمن كانت هذه صفته، ثم الله يتهدده ويتوعده بعذاب يأتيه في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال في آخرها (فتربصوا) يعني انتظروا ماذا يحل بكم من العذاب؟ ثم قال جل وعلا: (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) يعني: من كانت هذه صفته فهو فاسق، فتبين بهذا البيان الواضح وجوب تقديم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة طاعته -ومنها الجهاد في سبيله- على الآباء والأبناء والزوجات والمساكن الحسنة الجميلة، والتجارات التي يخشى الإنسان كسادها، يعني: أنها تكون تجارة متهيئة مطلوبة، فيها الربح الكثير.

فإذا كانت هذه الأمور كلها أحب إلى الإنسان من الله، ومن رسوله، ومن الجهاد في سبيله؛ فهو من العصاة الذين يستحقون الوعيد.

فهذا أمر واضح وجلي، فهو كلام الله جل وعلا، وقلنا: إن هذا من آخر ما نزل ليتبين أن الصحابة رضوان الله عليهم لما كان عندهم شيء من ذلك نبههم الله جل وعلا على هذا الأمر حتى لا تكون الدنيا مائلة لهم عن محبة الله أو محبة رسوله أو مشغلة لقلوبهم عن ذلك وعن الجهاد في سبيله.

ولهذا فإنهم رضوان الله عليهم خشوا من ذلك، وصاروا يجاهدون في سبيل الله، وما جلس في المدينة منهم إلا قلة قليلة، وجلهم مات في الجهاد في سبيل الله في بلاد بعيدة في سائر البلاد، في الشرق والغرب، وفي الشمال، وفي كل مكان؛ خوفاً أن يقعوا فيما حذرهم الله جل وعلا منه.