للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يخلو أحد من الناس من المعاصي]

كل الخلق لا ينفكون عن المعاصي, ولكن يختلفون اختلافاً عظيماً جداً، ولهذا يقولون: إن مما يعد حسنة لبعض الناس يعد سيئة للبعض، كيف يعد سيئة للبعض؟ مثل أهل القرب والولاية, لا يقنعون بالشيء الذي يرى عامة الناس أنه قربات، بل يستغفرون من عباداتهم؛ لأنهم ما جاءوا بها على الوجه الأكمل، يعني: ما جاءوا بها في مقام الإحسان؛ فيستغفرون ربهم من العبادات، أيقولون: ويدل على هذا أنه شرع لنا بعد نهاية الصلاة أن يستغفر الإنسان ربه ثلاثاً كما هي السنة (أستغفر الله, أستغفر الله, أستغفر الله) والصلاة من أفضل القربات, وبعدها مباشرة تستغفر ربك.

ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بالطاعة على الوجه الأكمل, وهذا شيء معروف يجده الإنسان من نفسه, ولا يستطيع أحد من الأمة أن يأتي بالصلاة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها؛ لأن معرفة ربه جل وعلا والقيام بأمره على الوجه الأكمل خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا يقول: (أنا أعلمكم بالله, وأتقاكم له, وأخشاكم له) صلوات الله وسلامه عليه، بل ما يستطيع الإنسان أن يأتي بالطاعة في الصلاة كما أتى بها أبو بكر أو عمر أو غيرهما من الصحابة.

ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: يقوم الرجلان في الصف الواحد، كل بجوار الآخر في الصلاة، وبين هذا وهذا مثلما بين السماء والأرض, يكون هذا كأنه يشاهد ربه, ويكون قلبه ساجداً بين يديه, خاضعاً له, ويستشعر عظمته وخطابه, ويود أنه ما ينتهي من الصلاة.

والثاني يكون أقل من هذا, أو ربما يكون يفكر في أمور الدنيا, وفيما يزاوله, فيخرج من صلاته وهو يخطط لأموره التي سيفعلها في الدنيا، وربما لا يدري ماذا قرأ الإمام؟ وماذا قال هو؟ ومثل هذا صلاته لا روح فيها في الواقع, يعني: مثل البدن الذي لا روح فيه.

المقصود أنه لا يوجد أحد من الناس يخلو من الذنب أبداً، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ينبههم الله جل وعلا على بعض المخالفات، فنوح عليه السلام لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:٤٥]، قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦].

هذا خطاب الله جل وعلا لرسول كريم من أولي العزم من الرسل، ثم يقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:٤٧].

وإذا نظر الإنسان إلى خطاب الرب جل وعلا لأوليائه من الأنبياء والرسل؛ يجد أنه ينبههم على أشياء يرجعون عنها، ويستغفرون ربهم منها, ويرون أنها ذنوب؛ ولهذا ففي يوم القيامة يعتذرون من ذلك للناس ويذكرون ذنوبهم كآدم وإبراهيم وموسى، فيعتذرون للناس مما كان منهم في الدنيا.

فآدم يقول: من الذي أخرجكم من الجنة؟ إنما خرجتم من الجنة بسببي فلست كما تظنون.

اذهبوا إلى غيري، إن ربي نهاني أن آكل من الشجرة فأكلت منها وعصيته، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له، والذنب إذا غفر كأنه لا وجود له، ولكنه مقام الاستحياء من الله جل وعلا.

وكذلك نوح عليه السلام يقول: إني سألت ربي ما ليس لي به علم.

اذهبوا إلى غيري، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له ذلك.

وكذلك إبراهيم عليه السلام يعتذر عن أمور كان يجادل بها عن دين الله، وتعد من قبيل حسناته، ولكنه استحيا من ربه؛ لأنها ليست على ظاهرها، وكان فيها شيء من التعمية والتورية، وخشي أن تكون كذباً، وأن تكون ذنباً فاعتذر.

وكذلك موسى عليه السلام يعتذر بالقتل مع أن الله خاطبه وأعلمه بأنه قد غفر له، لما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الأعراف:١٥١]، فغفر الله له، إلا أنه مستح من الله تعالى أيضاً.

فالمقام مقام عظيم جداً، فيستحيون من ربهم أنهم وقعوا في شيء من الذنوب وإن كان قد تاب عليهم، فهم أعظم الأولياء، وأقربهم إلى الله جل وعلا، وهؤلاء خلاصة الخلق الذين أخلصهم الله من بني آدم، فكيف بآحاد الناس ممن هم سوى الأنبياء؟! إن آحاد الناس قد يقع منه الذنب في اليوم عدة مرات، والذنوب قد تكون من قبل ذنوب القلوب التي هي أعظم من ذنوب الجوارح، فالحق أن ذنب القلب أعظم من ذنب الجارحة، مثل الحسد والغل والحقد على المسلمين أو بغضهم على باطل، أو حب على باطل، أو ما أشبه ذلك.

كبائر القلوب تهلك، وهي كثيرة جداً، وكثير من الناس لا يبالي بها، وكثير منهم يجعل الغيبة نصيحة.

والمقصود: أن الإنسان لا يقنط بسبب الذنب، في الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وهذا مقتضى أسماء الله، مثل الغفور والتواب والعفو.

وليس عيباً أن الإنسان يذنب، ولكن العيب كونه يصر على ذنبه، وإلا فالله جل وعلا يحب التوابين، والتواب هو الرجاع كثير التوبة، وكثرة التوبة تدل على كثرة الذنوب، فكلما أذنب ذنباً تاب، وكون الإنسان يتصور أن فلاناً ليس له ذنوب هذا خطأ، لا يوجد أحد ليس له ذنوب, ولكن إذا كان الإنسان رجاعاً أواباً ينوب إلى ربه ويرجع إليه فهذا هو الكمال.

[قوله: وفي رواية: (لا يجد أحد) هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه ولفظها: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).

وقد تقدم أن المحبة هنا: عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك، قال الشاعر: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها].

هذا يخاطب امرأة يحبها، ولا يجوز أن يكون لمخلوق محبة مثل هذه، يقول: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فقال: ملء عين، والقلب يمتلئ، ولكن مثل هذا يجب أن يكون لله جل وعلا أن يهاب ويجل ويحب، أما إذا كان لمخلوق فهو عابد لذلك المخلوق، وبعض الناس يعبد شهوته فيكون حظه من العبادة لمخلوق مثله، ثم هذه المحبة تكون عداوة ولعنة فيما بعد, فكل واحد يلعن الآخر ويتبرأ منه يوم القيامة.