للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خوف السر الواقع من عباد القبور]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٨]، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٥٠]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:٤٠]، وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:٤٤]، وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير.

والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام: أحدها: خوف السر: وهو أن يخاف من غير الله، من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:٥٤ - ٥٥]].

معروف عند عباد الأولياء والقبور ما يسمى بخوف السر، أي: أن صاحب القبر فيه سر، فمن قدم له طاعة ونذوراً نفعه سره وجاءه النفع منه، ومن لم يفعل ذلك فإن سره يضره، وقد يميته أو يمرضه أو يفقره، أو يميت أولاده وما أشبه ذلك، هكذا يتصورونه.

والمعنى: أنه خوف غيبي؛ فهو يخافه وهو غائب عنه، وهذا المخوف إما غائب مجهول، وإما في بلد آخر، وإما أنه مما لا يسمع الكلام كشجرة العزى أو حجر كاللات ومناة، أو غير ذلك من المعبودات التي تعبد، ولولا أنهم يرجون نفعها ويخافون ضرها ما عبدوها وما قدموا لها.

وذكر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه قال لما كان في الشرك: أرسلني أهلي بلبن وزبد للصنم، وكنت محتاجاً له، ولكن منعني خوف الآلهة أن آكل منها شيئاً، فجئت ووضعتها عنده، فجاء الثعلب فأكلها وشربها، ثم بال عليه.

سبحان الله! كيف ينطلي على عقل الإنسان أن يخاف حجراً أو شجرة، ويقدم لها ما يقدم؟ وهكذا فعل بعض شباب الأنصار في أحد ساداتهم لما تأخر إسلامه، وهو عمرو بن الجموح حين كان له صنم، فكانوا يجتمعون في الليل، فيأتون الصنم وينكسونه على رأسه، ثم إذا جاء الصباح أخذه ومسح عنه الغبار، وقال: لو أعلم من صنع بك هذا لفعلت به كذا وكذا، وفي الليلة الأخرى جاءوا وألقوه في مزبلة منكساً، فجاء وغسله، وقال: لو أعلم من صنع بك هذا لفعلت به كذا وكذا، وفي الليلة التي تليها جاءوا ونكسوه وربطوا فيه كلباً ميتاً، ثم جاء ونظر إلى حالته وفكر في نفسه، قال: والله إنه لهين! ما قيمة هذا الإله الذي يربط به كلب، ويلقى في المزبلة في النجاسات والقاذورات؟! هل هذا يجوز أن يعبد؟! فانتبه وهداه الله جل وعلا.

عقول سخيفة لعب عليها الشيطان، فصارت تخاف إما من ميت مقبور تحت الثرى، لا يستطيع أن يمتنع من الديدان التي تمزق بدنه، ولا يستطيع أن يضع من صحيفة سيئاته سيئة واحدة، ولا أن يضيف إلى صحيفة حسناته حسنة واحدة.

فالحي أقدر منه على الاستغفار والعمل وغير ذلك، وأما ذاك فهو مرتهن بعمله، فكيف يرجى؟ وكيف يخاف؟ وكيف يتجه إليه؟ لولا أن الشيطان يلعب على الإنسان ويفسد عقله، ويأتيه بالأمور التي تكون عنده معظمة، مثل أن فلاناً وفلاناً يعمل هذا، وأن فلاناً عمل هذا وصار له كذا وصار له كذا، وهكذا الذين يعبدون الأولياء عمدتهم كلها خرافات، إما منامات يأتي بها الشيطان، أو حكايات مكذوبة لا أصل لها، أو توهمات يوهمهم إياها الشيطان.

ولهذا يذكر الله جل وعلا أنه ليس لهم على ذلك من دليل ولا برهان بل الأدلة والبراهين على خلاف ذلك، والمقصود: أن خوف السر يعني به الخوف الغيبي، فهو يخاف منه وهو غائب عنه ليس حاضراً، إما أن يكون مدفوناً، أو لا يسمع، أو بعيداً في بلد آخر، أو أنه في بيته معلقاً عليه بابه ويخاف أنه يصيبه شيء إذا خالف معبوده، كما هو الواقع من المشركين قديماً وحديثاً، والشرك وإن اختلفت أساليبه وأسبابه فهو شيء واحد.