للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة العبودية أن ترضي الله دون النظر إلى الناس]

قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، رواه ابن حبان في صحيحه].

روي هذا الخبر عن عائشة مرفوعاً، وروي موقوفاً، ومعناه واضح وهو: أن العبد يجب أن يكون عبداً لله جل وعلا، فإذا كان عبداً لله حقيقة فلا يبالي بسخط الناس، وإنما يكون همه رضى الله، فإن وافق رضى الله مراد الناس وتصورهم فإنه يمضي به، وإن خالفه فلا يبالي بذلك، بل يتقرب إلى الله جل وعلا بأن يسخطهم لمرضاته، ويكون هذا من باب الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فإنه لابد أن يجاهد نفسه ويجاهد المكروه الذي يكرهه، وسيكون بعد ذلك منصوراً، والذي أسخطه في رضى الله قد يعود عليه حامداً ومحباً، ولا يلزم أن يكون هذا النصر وعود من أسخطه محباً له لكل أحد، ولكن الغالب وجوده، إلا أن يكون هذا في الكفار والمنافقين فإن ذلك لا يقع منهم، وأما إذا كان ذلك مع المؤمنين الضعفاء أصحاب المعاصي، فتقرب صاحب الحق إلى الله جل وعلا بإسخاطهم، فإن الغالب أن الله يرضيهم عنه، وكذلك يكونون محبين له؛ جزاءً لصبره ومجاهدته.

أما إن أتى العكس: فأرضى الناس بسخط الله، فإنه يعود عليه هذا الذي أرضاه بسخط الله: بالأذى وبالمقت وبالذم، وإن وافق أن أثنوا عليه أو نفعوه بشيء، فإنه لابد -إذا تقرب إلى الناس بسخط الله- أن ينقلب عليه ذلك ضداً، ويؤذى فيه.

قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: (كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك)، ورواه أبو نعيم في الحلية.

قوله: من التمس: أي: طلب.

قال شيخ الإسلام: وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)، هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً)، وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كافٍ عبده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣]، والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب.

وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة، (ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)، كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل لهم ابتداءً عند أهوائهم.

اهـ.

وقد أحسن من قال: إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب رحمه الله: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب! وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذاً بالله من ذلك، كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:٧٧].