للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظم شأن كلمة التوحيد وصيغتها الشرعية]

قوله في هذا الحديث: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأراضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة) الكِفَّة -بكسر الكاف- هي كفة الميزان، ولله جل وعلا ميزان يزن به أعمال بني آدم عظيم كبير جداً يسع الشيء الذي قد لا يتصوره الإنسان.

فلو أتى إنسان بهذه الكلمة صادقاً مخلصاً من قلبه مقبلاً على الله، وقدر أن له ذنوباً تزن السماوات والأرض فإن هذه الكلمة تثقل بهذه الذنوب، فهي لا يقاومها شيء، وهذا دليل واضح على فضل هذه الكلمة، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعدل إلى غيرها في الذكر فيتركها ويذهب يطلب غيرها.

ومن فضل الله جل وعلا أنه كلما كان الناس إلى شيء أكثر حاجة كان وجوده أكثر والعلم به أظهر، فمن الجهل كون الإنسان يذهب إلى الأذكار الأخرى التي هي مفضولة ويترك هذا الذكر.

وفي هذا الحديث أن الذاكر يأتي بها كلها، فيقول: (لا إله إلا الله)، ولا يقتصر على قول (الله) كما يقوله بعض الناس.

قال بعض العلماء: قول: (الله) هذا ليس ذكراً.

فكون الإنسان يقول: (الله الله) ليس ذكراً؛ لأنه لا يفيد شيئاً، وكذلك كون الإنسان يقول -كما يقول بعض الضلال-: (هو هو)، فيقولون أولاً: (لا إله إلا الله)، ثم يتدرجون فيسقطون بعضها إلى أن يصلوا إلى كلمة (هو هو).

وقد ألف ابن عربي الصوفي المحترق كتاباً سماه (كتاب الهو)، يعني أن الإنسان يذكر بهذا الكلام (هو)، ويزعم أن هذا هو الأفضل؛ لأنك تجعل لسانك لا ينطق إلا بكلمة (هو)، فهي عبارة عن أنك نزهت لسانك عن كل ما هو حشو، وهذا ضلال، وإنما يجب على الإنسان أن يقولها كاملة تامة مفيدة؛ لأنها وضعت لنفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، أما إذا ترك بعضها فإن هذا المعنى يضيع ويذهب ولا يدل على ذلك، والفضل جاء من هذا المعنى، من كونها نفت الإلهية عن غير الله وأثبتتها لله جل وعلا، وهذا لا يكون إلا على هذا الترتيب (لا إله إلا الله).

ولهذا صارت هي أصل الدين وأساسه، ولا يقبل من إنسان الدين إلا إذا تكلم بها، ومعلوم أنه لابد من فهمها حتى يحصل الإنسان على فضلها، فلابد أن يفهم معناها وأن يطبقها عملاً واعتقاداً، وهي مبنية على كون التأله يكون لله وحده، ولا يكون التأله لغيره جل وعلا، وأن كل تأله جعل لغير الله يكون محبطاً للعمل لأنه هو الشرك.

فهي بنيت على النفي والإثبات، نفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، وهذا هو أصل دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول يأتي إلى قومه يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:٥٠]، ومعلوم أن الإنسان لا ينفك عن التأله، فإن لم يكن تألهه لمولاه الذي لا غنى له عنه صار تألهه لمخلوق مثله ولابد، فيصير تألهه لمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً؛ لأن الإنسان عبد خلقه الله عبداً، فلابد أن يكون عبداً، فإن لم يكن عبداً لله كان عبداً للشياطين شياطين الجن والإنس، أو كان عبداً لشهواته ومرادات نفسه.

ثم إنه يجب أن يعرف معنى (الإله) ومعنى (العبادة)، فالإله الذي تألهه القلوب تعظيماً وخوفاً وحباً ورجاءً وإنابة، وأنه هو الذي يملك ما يحتاج إليه العبد في الدنيا والآخرة، وأن غيره فقير إلى الله جل وعلا، فمهما أعطي من أمور الدنيا أو من القوة أو من غيرها فإنه فقير، فيجب ألا يكون له شيء من حقوق الله، ثم إن التأله خاص بالله جل وعلا، لا يجوز أن يكون لنبي ولا لملك ولا لولي.

ولهذا صارت هذه الكلمة هي أصل الإسلام ومعناه الذي تبنى عليه جميع الأعمال، ومن هنا صارت أعظم كلمة، وصار الناس إلى معرفة معناها والعمل بها أحوج منهم إلى الأكل والشرب الذي إذا فقدوه ماتوا؛ لأن الإنسان إذا فقد ما يحتاجه بدنه صار أمره إلى أن يموت في هذه الحياة، ولكن إذا فقد التأله لله جل وعلا مات موتاً لا ترجى معه سعادة، موتاً يؤديه إلى الشقاوة الأبدية ليكون خالداً في النار؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وإنما خلق ليبقى، إلا أنه ينتقل من دار إلى أخرى حتى يصل إلى داره الأبدية، إما في الجنة أو في النار.