للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب]

من المعلوم أنه لا يراقب الله جل وعلا ولا يخاف منه إلا المؤمن، الذي يؤمن بأن كل شيء بيد الله، وأنه خلق العباد لعبادته، وأنه هو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يجب أن يطاع أمره ويجتنب نهيه، وهو الذي خلق العباد للجزاء أو العقاب، وإذا لم يكن عند الإنسان تصور لما تقدم، وليس عنده تصور لوقوفه بين يدي الله فيجازى بعمله الذي عمله؛ يصبح كالبهيمة لا يبالي بشيء، بل يسعى للشيء الذي يروق له ويناسب شهواته، فمثل هؤلاء أمنوا مكر الله؛ لأنهم في الواقع لم يلتفتوا إلى ما خلقوا له، ولم يبالوا بأمر الله الذي خلقوا من أجله وهو طاعته، وإنما رأوا أنهم خلقوا للأكل والشرب والتمتع بالملذات حسب المستطاع الذي يستطيعونه، فهؤلاء لا عبرة فيهم وفي لهوهم ولعبهم وانشغالهم بالدنيا، وإنما الذي يوجه إليه مثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] هم الذين يستشعرون بأن الله جل وعلا خلقهم وأنه سيحاسبهم، هؤلاء هم الذين يستفيدون من الخطاب أو قد يستفيدون منه.

ثم من المعلوم أن خطاب الله جل وعلا في القرآن الكريم وإن كان عاماً شاملاً للخلق كلهم فإنما يستفيد منه المؤمنون فقط، فالمؤمنون هم الذي يستفيدون منه ويمتثلون ذلك، ولهذا وجه إليهم النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، في كثير من الآيات؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بهذا، وإلا فالجميع سيلاقون ربهم ويسألهم جل وعلا وهم عبيده.

ثم إن من حكمة الله جل وعلا أن جعل الجزاءات والعقوبات غير معجلة، ولذلك ترى الإنسان يتمادى في غيه وفي معاصيه والله تعالى يغدق عليه من الأرزاق والصحة والعافية، فيبتعد كل البعد عما خلق له من الطاعة ومن العمل، فهذا من المكر؛ لأنه كلما عمل سيئة تحسن في نظره وفي فكره فيعمل سيئة أخرى وهكذا حتى يصل إلى اقتراف السيئات الكبيرة والكثيرة، وهذا الإملاء هو الذي حذر منه السلف في هذه الآثار: (إذا رأيت الرجل يعطى النعم وهو مقيم على المعاصي فإنه مكر).

ولكن يوجد من الناس من يؤمن بالله، وأنه سيلاقي ربه فيجازيه، وأنه عبد لله، وأنه خلق لطاعته وتوحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تراه يعصيه وهو يعلم، وقد يقع كثير من الناس في المعاصي وهم لا يدرون أنها معصية؛ وذلك لقصورهم في العلم وجهلهم؛ فتراهم لا يهتمون بالعلم الذي يوصلهم إلى الله، وإنما أكثر الناس يهتم بالدنيا أكثر من اللازم، أما أمور الدين فلا يعطيها من الاهتمام إلا شيئاً يسيراً، والناس يختلفون في هذا اختلافاً كبيراً، فمنهم من ينسى آخرته، ويكون كل اهتمامه وغايته الحصول على الدنيا، وهذا كثير، وهؤلاء هم أبناء الدنيا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره: (إن للدنيا أبناء وللآخرة أبناء)، والمقصود بالأبناء: الذين يجعلون عملهم وكدهم وكدحهم وتحصيلهم لهذه أو لهذه، وقد جاء: أن الدنيا والآخرة ضرتان لا تقبل على واحدة إلا أضررت بالأخرى.

فلابد للإنسان أن يجعل نصب عينيه دائماً الجنة والنار؛ لأن هذه هي الغاية، فالناس يتسابقون إما إلى الجنة أو إلى النار ولابد، فإن هذه نهايتهم ومنتهاهم، وهذه الحياة منتهية بلا شك وستمضي، سواء كانت في الأمور التي يحبها الإنسان أو في الأمور التي يكرهها ويبغضها، وتنسى لقلتها وحقارتها وقصر أمدها، وإنما الشأن في كون الإنسان يستشعر الذي خلق له، ويعلم أن مصيره إلى ربه جل وعلا، وأنه سوف يجازيه بعمله، فيحاسب نفسه ويسير على هذا المنوال، ثم يجب أن يكون خائفاً من ذنوبه وراجياً لرحمة ربه، فيكون بين هذين الأمرين: في خوف يمنعه من اقتراف المعاصي، ورجاء يدفعه إلى التعلق بربه جل وعلا.

وكذلك يكون عاملاً بالأوامر مجتنباً للنواهي، ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩]، فأخبر أن الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه هو العامل الذي يقوم آناء الليل ساجداً وقائماً بين السجود والقيام، وكذلك يقول جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:٢١٨]، فالرجاء يكون مع العمل، والراجي لرحمة الله هو المحسن، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:٥٦]، أما إذا كان الإنسان يسيء العمل ويأتي بما يخالف ما أمر به وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتمنى على الله الأماني ويقول: أنا أرجو الله ورحمة الله واسعة، فلا شك أن رحمة الله واسعة، ولكن أنت مأمور بأوامر فلا تهملها، ولا يكن أمر الله عندك من أقل الأوامر، فإنه إذا كان أمر الله قليل الشأن لدى الإنسان فإنه لا يبالي به، فرحمة الله واسعة، ولكنها للعاملين الذين يعملون، أما الذي يترك أوامر الله وراء ظهره ولا يبالي بها، وربما تمادى في المعاصي باستهتار، فيستهتر بكل ما أمره الله جل وعلا به؛ فهذا يخشى عليه أن يطبع على قلبه ثم ينتكس، فيصبح يحب المعاصي ويألفها حتى يدعوه ذلك إلى الخروج من الدين الإسلامي نهائياً، ويكره الحق ويبغضه، فإذا كان بهذه المثابة فهو من الخاسرين الذين أمنوا مكر الله.