للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على الكبائر والصغائر]

قال الشارح رحمه الله: واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثيرة، وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها: ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أو نفي الإيمان.

قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: (ليس منا من فعل كذا وكذا)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة من الاستغفار ولا صغيرة من الإصرار)].

من الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله واليأس من روح الله.

ومعلوم أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: قسم كبير وقسم صغير، لقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١]، فاشترط جل وعلا لتكفير السيئات اجتناب الكبائر، فدل هذا على أن الذنوب منها ما هو كبير ومنها ما هو صغير، وبعض العلماء ينكر هذا ويقول: الذنوب كلها كبيرة، وهذا بالنظر إلى من عُصي؛ لأن الرب جل وعلا شأنه عظيم، ومجرد المعصية كبيرة وإن كان الذنب صغيراً في نظر العاصي إلا أنه كبير، ولكن ما دلت عليه الأدلة أولى، والأدلة دلت على أن الذنوب منها الكبير ومنها الصغير، وفي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الكبائر ويقول: الكبائر كذا، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه ذكر أن: (الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا لم تغش الكبائر)، ومن هنا قال العلماء: إن الكبائر لابد فيها من التوبة، أما الصغائر فتكفر بمجرد اجتناب الكبائر، ثم اختلفوا في الفرق بين الصغيرة والكبيرة بعد الاتفاق على أن هناك ذنوباً منصوصاً عليها بأنها من الكبائر.

ومعلوم أن الشرك هو أعظمها؛ لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، فجعل ما دون الشرك داخلاً تحت مشيئته جل وعلا، إذا شاء أن يغفره غفره وإن شاء أن يؤاخذ به آخذ به، أما إذا مات الإنسان على الشرك فهو غير مغفور له، والشرك ليس متساوياً بل بعضه أكبر من بعض، ففيه ما هو صغير وما هو كبير، وإن كان الذي يلحق بالصغائر ليس داخلاً فيه؛ لأنه لا يخرج من الدين الإسلامي يسير الرياء؛ كالحلف بغير الله الذي يجري على اللسان بدون قصد تعظيم المحلوف به، وما أشبه ذلك، فمثل هذا وإن كان من الكبائر فإنه لا يدخل في الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة؛ لأنه لا يخرج من الدين الإسلامي، أما الشرك الأكبر فإنه يخرج من الدين الإسلامي، وهو أعظم الذنوب؛ وذلك لأن المشرك تنقص الله جل وعلا وصرف حقه لمخلوق مثله لا يستطيع أن ينفع نفسه ويجلب لها النفع ولا أن يدفع عنها الضرر فكيف بغيره! وهذا عام في المخلوقين كلهم، وهو أن يجعل شيئاً من العبادة لمخلوق أو يشركه فيها، كأن يتوجه إليه بالدعاء فيدعوه ويقول: يا فلان أغثني أصلح قلبي ارزقني اشفع لي عند الله، وما أشبه ذلك، أو ينذر له نذراً سواء كان ذبيحة أو طعاماً أو غير ذلك، ويعتقد أن الميت يقبل هذا النذر ويثيبه عليه! أو يتبرك به أو بقبره ويطوف عليه أو يجلس عنده؛ لأن الجلوس والعكوف عبادة، ولهذا أثنى الله جل وعلا وأمر أن يطهر بيته للعاكفين وللقائمين والساجدين، فالعكوف عبادة، وكذلك سائر العبادات، مثل الخوف كأن يخافه الخوف الغيبي، أو الرجاء كأن يرجوه أن ينفعه نفعاً غير قائم على سبب، وأنواعه كثيرة جداً، وضابطها: أن تكون عبادة لله جل وعلا يثيب عليها أو يعاقب عليها ثم يجعلها للمخلوق أو يجعل بعضها للمخلوق، فيشرك بينه وبين الرب جل وعلا، فهذا من الشرك الأكبر وهو أعظم الكبائر.

أما بقية الكبائر فمن العلماء من حاول عدها وذكرها بأعيانها، فمنهم من ألف فيها مؤلفات في سردها، كالحافظ ابن القيم رحمه الله فله مؤلف في الكبائر (كتاب الكبائر)، وكذلك الذهبي له كتابان في هذا: كتاب كبير وكتاب صغير، وكذلك ابن حجر الهيثمي له كتاب: (الزواجر في اقتراف الكبائر)، وهو أوسع الكتب التي ألفت في هذا الباب، وقد ذكر فيه كبائر كثيرة وقسمها إلى: كبائر تفعل بالجوارح الظاهرة وكبائر تفعل بالقلب كالحسد والغل وما أشبه ذلك.

ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حصر الكبائر بهذا الحديث؛ لأنه سبق أن مر معنا: (اجتنبوا السبع الموبقات) فجعلها سبعاً وهنا ثلاثاً، وفي بعض الأحاديث أكثر وبعضها أقل، ولهذا اختلفوا في ضابطها ما الذي يفرق بينها وبين غيرها؟ ومنهم من ضبطها بأنها: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة بالنار أو بالغضب أو بالعذاب فإنه يكون من الكبائر، بل بعضهم قال: إذا توعد فاعلها، أو قيل في حقه: إنه ليس منا أو ليس على ملتنا، أو تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنا بريء ممن فعل كذا وكذا) مثل ما جاء في الاستنجاء بالعظم والروث، فيكون هذا منها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن فعل ذلك.

وهذا التفريق حتى تتميز الذنوب الكبيرة من الذنوب الصغيرة، ويعرف الإنسان الشيء الذي وقع فيه وأنه يجب عليه أن يبادر للتوبة ويتوب؛ لأنه إذا مات بدون توبة فإنه يكون مؤاخذاً بذلك إلا أن يشاء الله فيعفو عنه، مع أن التوبة تجب حتى من الصغائر؛ لأن الصغائر إذا اجتمعت تكون كبيرة، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لذلك بقوله: (وإياكم ومحقرات الذنوب)، سميت محقرات: لكون الإنسان يحقرها ويستصغرها، ثم لا يبالي بها فتكثر، فضرب لذلك مثلاً فقال: (فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا منزلاً فصاروا يجمعون حطباً هذا يأتي بعود وهذا يأتي بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم) فهذا مثلها، فإذا اجتمعت أحرقت الإنسان وأهلكته، وقول ابن عباس: إنها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع أو قال إلى السبعين، يعني: أنها كثيرة غير محصورة.