للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوبة النصوح وشروطها]

ولكن يقول: (لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار) يعني: أن الإنسان إذا وقع في الكبائر وتاب فإنها تمحى ويُعفى عنها؛ لأن المقصود بالاستغفار التوبة، والتوبة: هي التوبة النصوح، ولها شروط ثلاثة أو أربعة: أولاً: أن يقلع عن الذنب، ولا يصر عليه.

الثاني: أن يندم على وقوعه فيه.

الثالث: أن يعزم عزماً جازماً أنه لا يعاوده، فإذا فعل ذلك فتكون التوبة مقبولة بإذن الله، ولو عاد فعليه أن يتوب مرة أخرى، بشرط أن لا تكون عنده نية بأنه سيعود، فإن كانت عنده نية فهو مصر.

فإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي فإنه يضاف إلى ما تقدم هذا الشرط: أن يستسمح ممن أذنب في حقه ويرد له مظلمته.

يقول العلماء: هذه هي التوبة النصوح المقبولة عند الله، وهي التي أمر الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:٨]، يعني: أن تكون صادقةً توفرت فيها الشروط السابقة يرجو بها ثواب الله، وأعظم الذنوب الشرك بالله جل وعلا، وسواء كان شركاً في الربوبية، وأمره واضح وظاهر، ولكن قد يقع فيه بعض الناس، أو كان شركاً في العبادة، أي: العبادةِ التي تصدر من الإنسان؛ لأن الإنسان عبدٌ لله جل وعلا، وقد كلف بأوامر وكلف بأن ينكف عن نواهي نهي عنها، فيجب أن يكون دائماً بين أمر الله فاعلاً له وتاركاً لما نهاه عنه مراقباً لهذا النهي لا يقربه، وبذلك تستقيم عبوديته لله جل وعلا.

فهذه العبادة يجب أن تكون لله خالصة، وضدها الشرك وهو: أن يقصد بعمله مخلوقاً من خلق الله جل وعلا، أو يقصد بعبادته أمراً دنيوياً ومصلحة عاجلة يتحصل عليها، سواء كانت رفعة أو ثناء يثني عليه الناس ويمدحونه فإن هذا نوع من عبادة النفس؛ لأنه يريد أن يكون هو الذي ينظر إليه ويشار إليه، ولكن يجب أن يعرف قدره عند الله بالنظر إلى عمله، فيعرض عمله على كتاب الله فربما يكون ممقوتاً عند الله، فلو كان كذلك فماذا يفيده لو أشار الناس إليه أو أثنوا عليه؟ لا يفيده ذلك شيئاً.

كذلك من الأمور التي قد تكون كبيرة والإنسان لا يشعر بها: العجب، فكونه يعجبه عمله ويرى أنه أفضل من غيره، أو أن يكون عنده من الحسد والحقد والبغضاء والكراهية للحق، فإن هذا أمره عظيم وقد يدخل في الشرك؛ لأن الذي يحمله على ذلك إما حب النفس أو حب أمر من أمور الدنيا، سواء كان من الأشخاص أو من المعاني.

ثم الأمن من مكر الله ومعناه: أن يتهاون بأمر الله ويستصغره ولا يهتم به، ولا يخاف من عقاب الله جل وعلا لو فعل ما نهى عنه، ولهذا يقال: إذا رأيت الإنسان مقيماً على المعصية وهو معافى فهذا هو الأمن من مكر الله، فيجب أن يكون الإنسان خائفاً مراقباً لربه جل وعلا، وإذا أمن مكره وقع في الكبيرة، وعكس هذا القنوط من رحمة الله وهو من الكبائر، وهو أنه يخاف خوفاً كبيراً ويقول: لا يغفر لي؛ لأني فعلت ذنوباً عظيمةً، فييأس ويقنط من رحمة الله، وهذا من إساءة الظن بالله جل وعلا، والله قد أخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، وأنه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يمنعه أحد، ولا يتعاظم الإنسان ذنباً من الذنوب فيبقى الباب أمامه موصداً، وهذا من تزيين الشيطان له ليهلكه، فيجب أن يرجع إلى ربه جل وعلا دائماً، ويعلم أن رحمة الله واسعة وسعت كل شيء، فيكون خائفاً من ذنوبه مراقباً لنفسه ألا تستمر على معصية وتتمادى عليها، ويكون عارفاً بفضل الله العظيم ورحمته وسعة مغفرته، فيكون بين هذا وهذا، ولا يصر على الصغيرة؛ لأن الاستمرار على الصغيرة يصيرها من الكبائر؛ لأن الله جل وعلا نهاه عن الذنوب مطلقاً، واستمراره على الذنب -وإن كان صغيراً- هو استسهالٌ للأمر واحتقار له فلذلك يصير كبيراً عند الله، أو أن الذنوب تتكاثر فإذا كثرت صارت كبيرة كما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)، رواه عبد الرزاق].

قوله: (أكبر الكبائر الإشراك بالله) أي: في ربوبيته أو عبادته وهذا بالإجماع.

قوله: (والقنوط من رحمة الله) قال أبو السعادات: هو أشد اليأس.

وفيه التنبيه عن الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله، وكان السلف يستحبون أن يقوي في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره، قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:١٢]، وقال سبحانه وتعالى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧]، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:٦٠ - ٦١] , وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩]، وقدم الحذر على الرجاء في هذه الآية].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف.

الثانية: تفسير آية الحجر.

الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.

الرابعة: شدة الوعيد في القنوط].