للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عظم الجزاء مع عظم البلاء]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي].

هذا الحديث ظاهره هو أصل المسألة التي ذكرنا: أن البلاء والمصائب عليها جزاء؛ لقوله: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) يعني: إذا كان الإنسان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم وأكبر، فيدل على أن المصيبة يجزى بها الإنسان.

وقد جاء صريحاً في حديث ابن مسعود: لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، قال له: (إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: نعم، أو قال: أجل، كما يوعك اثنان منكم، وقال: ألأن لك أجرين؟ قال: نعم) يعني: إذا كان هذا مرضه أشد فيكون أجره أكثر، وهذا الحديث صريح في ذلك، وهذا هو الصواب أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة إن كان له ذنوب كفرت بها، مقابل ذلك، ولا يخلو أحد من الذنوب أبداً.

(كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وفي الحديث الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم)؛ لأن الله جل وعلا من أسمائه الغفار والعفو والرحيم والتواب، فلابد أن تظهر آثار أسمائه جل وعلا على خلقه، فهذا مقتضى خلقه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس، فكل بني آدم والجن -وهم المكلفون- يقعون في أخطاء كثيرة، وخيرهم الذي إذا أخطأ تاب، ثم الملائكة خلقوا للعبادة، أي أنه: خلص خلقهم للعبادة وكلفوا بذلك، ولهذا لا يوجد عندهم ما عند بني آدم من العصيان: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، دائماً وأبداً فهم جنس آخر من غير جنس بني آدم.

فإذا كان الإنسان خطؤه عظيماً فتكون المصيبة مقابل الخطأ، فإن كانت أكبر وأشد من خطئه صار منها ما هو مكفر ومنها ما هو في رفعة درجاته عند الله، وفي الأثر: أن الإنسان تكون له درجة عند الله لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب حتى يبلغ تلك الدرجة.

وهذا القول هو الصواب من أقوال العلماء: أنه يختلف الناس فيها، إذا اشتد البلاء والإنسان ليس له من الذنوب ما يقابل ذلك فإن هذا رفعة لدرجاته، وزيادة في حسناته، ولهذا فإن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يبتلونَ بتكذيب قومهم وبأذيتهم وربما بقتلهم.

ومعلوم أنهم خير الخلق، فخير بني آدم هم الأنبياء والرسل: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف في بلائه) فتكون بلواه على حسب ما عنده من الدين، وهذا من رحمة الله جل وعلا، لأنه لو زيد في بلاء الإنسان الذي دينه ضعيف لقدم دينه دون عرضه حتى يسلم، فالله جل وعلا لطيف بعباده، وهو حسب مصالحهم، فإنه إذا أراد الخير بعبده هيأ له أسباب ذلك بفعله هو، وإن لم يكن من فعله ما يصل به إلى الدرجة العالية وقد أراد الله له تلك الدرجة ابتلاه بالمصائب، سواء كانت مصائب قدرية أو مصائب بسبب الناس، وإن كانت كلها بالقدر، فما يقع شيء إلا بقدر الله جل وعلا، ولكن الأسباب قد تكون أثراً من آثار الناس الذين يفعلون ذلك وهم مسئولون عن أفعالهم، وإن كان أمرهم مقدراً؛ لأن العاقل والمكلف لابد أن يطالب بأعماله، وليس لأحد حجة بالقدر، فيقول: هذا مقدر علي أنا فعلت الشيء المقدر علي لأن الإنسان مكلف بأعمال محددة من الطاعات، ومنهي عن أعمال محددة من المعاصي يستطيع أن يتركها، والطاعات يستطيع أن يفعلها، وقد علم بذلك وقيل له: هذا طريق الخير فاسلكه، وهذا طريق الشر فاجتنبه.

فإذا ارتكب شيئاً من المناهي بعد ذلك فاللوم عليه، وليس له أن يقول: إن الله قدر علي ذلك، فهو الذي فعله، وما يدريك أنه قدر عليك قبل أن تفعل ذلك، فعليك أن تجتهد، فإذا وقعت في ذنب فلا تقل: هذا مقدر، ولكن قل: أستغفر الله وأتوب إليه، فاستغفر واسترجع، وعد على نفسك باللوم، أما إذا قال الإنسان: أنا وقعت في القدر، فمعنى ذلك: أن أجعل اللوم على القدر لا على نفسي، يبرئ نفسه من ذلك، ويجعل اللوم على ربه، فهذا يكون مقتدياً بإبليس عندما قال لربه: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:٣٩] الله أغواه أك هو الذي أغوى نفسه؟ هو الذي اختار الغواية، ولما قيل له: اسجد، أبى وقال: أنا خير منه وهناك سجدت الملائكة، ولكنه أبى هو باختياره، فهو الذي غوى بفعله.

فلا يحتج بأن الله قدر ذلك، الله جل وعلا قدر كل شيء؛ لأنه هو المالك لكل شيء، ولكن أعطاك المقدرة على الفعل الذي كلفك به، وأعطاك المقدرة على ترك الأفعال التي حرمها عليك، فإذا امتثلت الأمر كنت موافقاً للقدر وموافقاً للشرع، وإذا لم تمتثل الأمر كنت عاصياً، وإن كنت لا تخرج عن مقدور الله جل وعلا، فلا أحد يخرج عن مقدور الله، ولكن العقلاء كلفوا بعدما أعطوا العقل بالشيء الذي يستطيعونه.