للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)]

واستدل المؤلف هنا في أول الباب بقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠].

معلوم أن الآية الواحدة (من كتاب الله جل وعلا تشتمل على معان كثيرة جداً، فالله يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس هذا الكلام فقال: (قل)، فهذا أمرٌ من الله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}: يعني لست برب ولا إله، أنا بشر مخلوق، ولكن الله جل وعلا خصه بالرسالة، وكلفه بأعبائها وتبليغها، هذا الذي خص به من دون الناس، أما في خلقه وخصائصه من الأكل والشرب والنوم وما أشبه ذلك، وكونه خلق من ذكر وأنثى؛ فهو مثل الناس تماماً، ليس كما يزعم أهل البدع والانحرافات أنه خلق من النور، وأنه أصل المخلوقات، وأنه لولاه ما خلق شيء، وغير ذلك من أنواع الغلو التي تئول بصاحبها إلى الشرك بالله جل وعلا في الربوبية.

يقول: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، والذي أتميز به عنكم {يُوحَى إِلَيَّ}، تميز بالوحي فقط، أن الله يوحي إليه أمره ونهيه الذي كلفه أن يبلغه إلى الناس، كلفه به ليقوم بأعبائه، ثم جعل الوحي في شيء واحد؛ لأن هذا هو الأصل: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ لأن هذا الذي يدور عليه جميع العمل الذي كلف به بنو آدم.

والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب حباً وخوفاً، ورجاءً وإنابة، وتوكلاً وخشية، فيجب أن يكون هو المألوه في أداء الأعمال، وتؤدى له فقط: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وهو الله جل وعلا.

ثم قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، الرجاء: يقصد به الاعتقاد والإيمان، واللقاء: يتضمن الرؤية والمعاينة.

والمقصود الحساب، فمن كان عنده إيمان بأن الله سيميته، ثم يبعثه، ثم يوقفه بين يديه ويحاسبه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، من كان يرجو ذلك فليكن عمله صالحاً، أما الصلاح فيقصد به أن يكون موافقاً لأمر الله جل وعلا ونهيه، وإذا لم يكن موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو فاسد غير صالح.

(فليعمل عملاً صالحاً) فليعمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، لا بهوى نفسه، ولا بما وجد عليه الناس، ولا بمقتضى عقله، ولا بغير ذلك من الأمور التي تكون مصدراً للعمل، وإنما يتعرف على أمر الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجتهد في معرفته ثم يعمل به: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، ولا: هنا ناهية.

والشرك هنا يقصد به صغيره وكبيره، ولهذا قال: (أَحَداً) نكرة في سياق النهي، وهذا من العمومات التي لا يخرج عنها شيء، فدخل فيه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ومن ذلك الرياء، ولا يلزم أن يكون شركاً صغيراً فقد يكون كبيراً؛ لأن الرياء إذا كان في أصل العمل فهذا من شأن الكفار والمنافقين، فالله جل وعلا أخبر عنهم أنهم: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:٤٧]، مراءاة للناس، أما المنافقون فيقول جل وعلا أنهم {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:١٤٢]، والرياء في الأعمال بالباطنة لا يصدر من مسلم، أما في الأعمال الظاهرة التي ترى فقد يصدر منه الرياء ويقع فيه، مثل الحج، والصلاة وما أشبه ذلك، يريد أن يذكر، وربما يشهر نفسه، حتى إن بعض الناس إذا حج سمى نفسه: الحاجُّ فلان، لماذا الحاج فلان؟ حتى يعرفوه أنه قد حج! فيجب أن يكون العمل لله وحده، ولا يذكره للناس حتى يثنوا عليه به أو يسموه به، فهذا من أقل ما يقال، وإلا فالأمور التي تقدح في العمل كثيرة جداً، ولكن هذا واضح يجب على العبد أن يجتنبه حتى يكون عمله صالحاً خالصاً لله، ويكون ممن امتثل أمر الله في هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠]، يعمل عملاً صالحاً إن كان يرجو لقاء ربه.

ولقاء الله جاء كثيراً في القرآن يقصد به المواجهة والمحاسبة، وفي ضمن ذلك رؤية الله جل وعلا، قال السلف: كل لقاء في القرآن يتضمن الرؤية؛ لأن لقاء الرؤية يكون بعد الكدح والعمل كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، فاللقاء يكون بعد كدح العمل.

ومعلوم أن كل إنسان عامل، وعمله إما له أو عليه، فإذا كان عليه فاللقاء بمعنى الجزاء للكفار ونحوهم؛ لأنهم لا يرون ربهم، وإن كان مؤمناً فإن لقاءه يتضمن معاينة ربه وكلامه، ومحاسبته، وقد يكون فيه تهديد، وقد يكون فيه تقرير له على أعماله السيئة، ثم يعفو عنه جل وعلا كما في حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيح لما قيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ يعني: مناجاة الرب جل وعلا لعبده، وهذا مما يجب أن نؤمن به، فإن الله يكلم عباده جهاراً، ويكلم عبده بينه وبينه، والنجوى لغة: أن يكلم شخص آخر ولا يسمعه من بجواره، فلما سئل: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: (يدني الله عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف: هو الستر، يستره لئلا يراه أهل الموقف فيفتضح أمامهم، فيقرره بذنوبه يقول: عملت كذا في وقت كذا في يوم كذا في مكان كذا، وما يستطيع أن ينكر، ويقول: بلى، وكلما قال له: عملت كذا وكذا عملت كذا وكذا يتغير لونه، ويظن أنه هلك، وأن الله سوف يأخذه ويعذبه بذلك، وهذا سبب كونه يضع عليه الستر، قال: (فإذا قرره بذنوبه قال الله جل وعلا له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتابه بيمينه)، عند ذلك يفرح الفرح الكبير، ويتصور أن أهل الموقف كلهم يهمهم أمره، فيرفع كتابه بيده ويقول: هاؤم اقرءوا كتابيه، يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابيه، انظروا أعطيت الكتاب باليمين، وهذا هو عنوان السعادة، فمن شدة الفرح واستيلاء السرور عليه يقول هذا الكلام.

أما الكافر أو الفاجر فإنه يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٠ - ٣٢]، هكذا يكون جزاؤه.

يجب أن يحسب الإنسان اللقاء حساباً، فإن كان عنده له حساب فليكن عمله صالحاً موافقاً للسنة، وليكن خالصاً لله جل وعلا، وليس للناس فيه شيء، لا ينظر إليهم، ولا يهمونه، ويعلم أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قدره الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قدره الله عليه، ولا يكون ذلك إلا من جراء ذنوبه.